يعيش العالم هذه الأيام أجواء متوترة تذكرنا بما كان يحدث خلال سنوات الحرب الباردة. معسكران على أهبة الاستعداد لقيام حرب كبيرة، وعالم يترقب، وحلفاء جاهزون للاصطفاف مع هذا المعسكر أو ذاك، وحلفاء آخرون لا يبدون أي إشارات حتى الآن. الدبلوماسية والإعلام الغربيان يدفعان باتجاه الحرب. هذا ما يُظهر لي من خلال متابعتي للبيانات الدبلوماسية والتقارير الإعلامية التي تصدر من كبريات العواصم الغربية! كيف يفعلان ذلك؟

من خلال الضغط المبالغ فيه على روسيا، فهما يذكرانها دائماً بأن عليها أن تظل خاضعة للإملاءات الغربية، وإلا فإن العقوبات الكبيرة وغير المسبوقة بانتظارها. يعمدان إلى ملامسة كرامتها من الداخل حتى تنتفض وتنتقم، فتتورط في مستنقع يصعب عليها الخروج منه.

وبالإضافة إلى ما تمارسه الدبلوماسية ويطرحه الإعلام، فإن ما تقوم به أجهزة الاستخبارات الغربية من دعوة للحرب لا يقل التفافاً ولا مناورة! فهي تحذر روسيا (على لسان السياسيين) من اجتياح أوكرانيا، فيما هي في الحقيقة تفرش لها الطريق لفعل ذلك! ترفض الحرب في العلن، لكنها ترسل الأسلحة الدفاعية والهجومية لأوكرانيا في العلن أيضاً بحجة تحقيق التوازن على الأرض.

فهل ستستجيب روسيا للضغوط الغربية، التي أسميها هنا ضغوطاً عكسية على شاكلة «الأمر بأدوات النهي»، وتدخل أوكرانيا ومن ثم تعلق في وحل مفتوح، يستنزفها اقتصادياً وعسكرياً والأهم سياسياً؟ أم أنها تعمل على استهلاك الوقت في مواجهة العجز الغربي، الذي لو استمر مدة أطول بلا حرب فإنه قد يقوض الكثير من البناءات الغربية من الداخل؟! من الواضح لي أن الغرب يستعجل دخول روسيا لأوكرانيا ومن ثم استنزافها هناك، لسببين رئيسيين.

الأول توريطها في حرب شبيهة بـ «الحرب الأفغانية – السوفييتية» تكون نتيجتها عودة موسكو إلى أجواء العام 1992 الذي كانت تبدو فيه مثل أية دولة من دول العالم الثالث: اقتصاد متعثر وسياسة مضطربة ومنكفئة على الداخل وقوة عسكرية بلا مخالب وكرامة مهزومة! والأكثر من ذلك رئيس يصارع للبقاء بين تمرد وتملل شعبي متصاعد وخصوم سياسيين نافذين!

والثاني إخراج روسيا من أجواء الحرب الباردة (التي لا سلم فيها ولا حرب)، لأن الحرب الباردة هي ما ستصنع مجدها الجديد وتجعل منها قطباً كونياً قادراً على اجتثاث الغرب من كرسي قيادة العالم، وبخاصة في ظل علاقاتها الناعمة مع الصين التي يسير «قمر قطبيتها» بسرعة رهيبة نحو الاكتمال! الغرب يعرف أن روسيا تصغر بالحروب الهامشية، وتكبر بالحرب الباردة، لذلك فلا بأس من حرب هامشية أوكرانية جديدة، يلتقي فيها الدب الروسي بالجيش الأوكراني المدعوم غربياً بالسلاح وبـ «المجاهدين الأوروبيين»!

أما روسيا، فهي على الجانب الآخر تدرك جيداً المرامي الغربية لكل هذه الضجة، لذلك فإنها في تقديري لن تغامر بصناعة «أفغانستان جديدة»، لكنها أيضاً لن تسمح لحلف الناتو بنصب صواريخه على مقربة من حدودها. مشكلة معقدة، تتداخل فيها المصالح والتهديدات. هل ستستطيع روسيا تحييد خطر «الناتو» على حدودها من دون الدخول في حرب مع أوكرانيا، أم ستنتصر الإرادة الغربية مرتين: دخول روسيا الحرب وبالتالي إشغالها وتكسير مجاديفها مؤقتاً، أو إخضاعها لتهديد الناتو على حدودها؟ الأيام حُبلى.

* كاتب سعودي