الموسيقى لا تعترف بالحدود ولا بحواجز اللغة. ولطالما أطربت الموسيقى وأغاني الأفلام الهندية الجماهير في كل القارات تقريباً، بأصوات المغنين الشجية والألحان الموسيقية الآسرة. بيد أن كثيراً من الناس لا يعرفون أن النجوم التي نراها تغني في الأفلام الهندية إنما تقوم في الحقيقة بتحريك الشفاه فقط بتزامن مع الأغاني التي يغنيها مغنون محترفون، وذلك بفضل تقنية الدمج الصوتي.

وقد أنجبت الهند للعالم عشرات المغنين والموسيقيين الكبار، ذكوراً وإناثاً. لكن المغنية التي برزت كأيقونة عملاقة بين 1,4 مليار نسمة، والتي أثّر غناؤها في أجيال منذ الاستقلال كانت هي «لاتا مانجيشكار». «لاتا» التي لُقِّبت «بلبلة بوليود»، توفيت هذا الأسبوع عن عمر ناهز 92 عاماً، بعد أن أسرت أجيالاً في شبه القارة الهندية بغنائها بلغات متعددة وبصوتها الرقيق والعذب. ولدت لاتا عام 1929، وكانت في سن الـ13 فقط عندما سجلت أولَ أغنية لها بعد وفاة والدها، لأنه لم يكن هناك معيل آخر للعائلة. ومنذ ذلك الحين لم تتوقف لاتا عن الغناء.

كانت تلك فترة نشطة وحبلى بالأحداث بالنسبة للهند. فقد كانت البلاد قد خرجت للتو من قرنين من الاستعمار، وكانت واثقة من مستقبل مشرق على الرغم من المشاكل الكثيرة التي واجهتها. وكانت أفلام تلك الفترة تعكس هذا المزاج الذي لم يكن يعبّر عنه أحد أفضل من لاتا. فغنّت للأمة الفتية بكل أمل وتطلع نحو المستقبل. وغنّت أغاني الأم المتفانية، والأخت العطوف، والابنة المرحة، والعاشقة الولهانة، والجليسة المرافقة.. كان لها صوت يسهل تمييزه والتعرف عليه أكثر من الممثلات الكثيرات اللاتي غنت لهن. لقد كانت عن حق سيدة الغناء التي أسرت الخاصة والعامة على حد سواء. في أوج مجدها في الخمسينيات، برزت لاتا باعتبارها ملكة الغناء غير المتوجة في الهند. وكانت أغانيها تسمو على الجغرافيات واللغات فتذهب حيثما ذهب الهنود، سواء في الشرق أو الغرب، من الخليج العربي إلى خليج المكسيك والهندوراس. وغنت ألحاناً حزينة وأخرى سعيدةً ومفعمة بالأمل والحياة والأمل، أو أغان رومانسية ضمن ثنائيات، وكل ذلك بيسر وسهولة، ضمن ما سيعرف لاحقاً بعصر بوليود الذهبي.

اليوم، أمّةٌ برمتها تصلي من أجلها. كيف لا وقد كانت صوت موسيقاهم الذي عزف أوتاراً حساسةً، صانعاً مزيجاً مذهلا ومتفرداً في موسيقى الأفلام الهندية إلى هذا اليوم. غنت لاتا مانجيشكار عشرات الآلاف من الأغاني بـ36 لغةً في مسيرة فنية امتدت لأكثر من 70 عاماً. وفي عام 1974، سُجل اسمها في كتاب غينيس للأرقام القياسية العالمية لأنها غنت أكثر من 25 ألف أغنية من مختلف الأنواع من 1948 إلى 1974. فكانت بذلك أول مغنية هندية تُدخل اسمها إلى كتاب غينيس للأرقام القياسية العالمية. وفي عام 2009، كوفئت بوسام «ضابط جوقة الشرف»، الذي يُعد أعلى وسام مدني تمنحه فرنسا.

وفضلاً عن توشيحها بأعلى وسام مدني هندي «بهارت رتنا»، الذي لم يُمنح سوى لـ48 شخصاً منذ استقلال الهند في عام 1948، حازت لاتا على المئات من الأوسمة والجوائز الأخرى، ومن ذلك ثلاث جوائز وطنية و12 جائزة من جمعية الصحافيين السينمائيين البنغال. كما رشحت لعضوية الغرفة العليا في البرلمان الهندي في عام 1999. وبالنظر إلى أغانيها التي فاق عددها 25 ألف أغنية، وكل واحدة منها تمثل درساً في الانضباط والجرأة والذكاء، جعلت لاتا الهندَ وباكستان تتفقان على شيء واحد بالإجماع، ألا وهو قوة موسيقاها وألحانها.

عشاقها هناك يتحدثون عنها باعتبارها أكبر خسارة منيت بها باكستان بسبب «التقسيم». فقد كان هناك اتفاق بين البلدين بخصوص سحر صوت لاتا. شعبيتها كانت تتجاوز الحدود المادية مع باكستان المجاورة، حيث حزن الناس على موتها واعتبر عمران خان، رئيس الوزراء الباكستاني، أن «شبه القارة فقدت واحدةً من أعظم المغنين في العالم».

وقد كانت تحظى بحب وإعجاب أيضاً في بنغلاديش والنيبال وأفغانستان. أدركت لاتا مبكراً أنها تستطيع استخدام شعبيتها لخدمة قضايا الفقراء والمهمشين في المجتمع، فأحيت حفلات موسيقية لجمع المال من أجل قضايا إنسانية، وواصلت الغناء حتى بعد أوج عطائها في سبيل قضايا الأطفال المعوزين والمعاقين.

وكانت أيقونةً ثقافيةً وكنزاً وطنياً حزِن على رحيله الجميع، من رئيس الوزراء ناريندرا مودي، الذي قال إنه «حزين لحد يفوق الوصف»، إلى رجل الشارع البسيط. وتقديراً لما قدَّمته للبلاد، أُقيمت لها جنازةُ دولة ونُكّست الأعلام في الهند حداداً على مدى يومين. وتوجّه رئيس الوزراء شخصياً إلى مومباي من أجل حضور الجنازة

ورغم أن سحرها رحل مع وفاتها، إلا أن أمةً ممتنةً أغدقت عليها كلَّ مظاهر التكريم التي تستحقها. ولا شك في أن لاتا كانت مرادفاً للامتياز وتعدد المواهب والتواضع، خصالٌ يؤمل أن تشكّل مصدر إلهام لمغني اليوم في شبه القارة الهندية.

*رئيس مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي