«الناتو» وروسيا
د. عبدالله محمد الشيبة



 في أوائل تسعينيات القرن الماضي انتشرت أنباء نهاية الحرب الباردة بين حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق ومنظمة حلف شمال الأطلسي أو المتعارف عليه باسم حلف «الناتو» بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وبادرت غالبية دول شرق أوروبا التي كانت منضوية تحت حلف وارسو بالخروج منه والتقارب تدريجياً مع العالم الرأسمالي. وهنا ساد الاعتقاد أن حقبة جديدة من العلاقات الدولية تم تدشينها بزعامة قوة عظمى منفردة وهي الولايات المتحدة الأميركية والتي نجحت في ضم 14 دولة كانت ضمن حلف وارسو، إلى مظلة حلف الناتو وذلك منذ العام 1999.

وبالتزامن مع توسع حلف «الناتو» وبلوغ قواعده الحدود الروسية بشكل أو بآخر، أصبح جلياً أن الهدف الاستراتيجي الذي تم وضعه عند إنشاء حلف «الناتو»، والذي كان ينص على مواجهة التمدد الشيوعي والقضاء عليه، كان موجهاً في الأساس إلى روسيا، وبالتالي أعيدت صياغة ذلك الهدف ليكون «احتواء روسيا»، وقد يصل إلى درجة إسقاط نظام الحكم هناك واستبداله بقيادة موالية للولايات المتحدة الأميركية وحلف «الناتو».

ورغم الصعوبة الكبيرة في تحقيق هذا الهدف للعديد من الاعتبارات السياسية والعسكرية، فإن السياسة الأميركية سوف تستمر في وضع الخطط الكفيلة بإحداث أكبر قدر ممكن من الشرخ داخل المجتمع الروسي بين أفراده والقيادة السياسية، بجانب الاستمرار في حصار روسيا بالمزيد من التواجد العسكري الغربي داخل دول حلف «وارسو» السابق.

وهنا تتضح لنا أبعاد الأزمة الحالية بين روسيا من جانب وحلف «الناتو» من جانب آخر حول أوكرانيا، والتي ترى روسيا أن احتمالات انضمامها إلى حلف «الناتو» سوف يمثل أكبر تهديد أمني وعسكري مباشر على الأمن القومي الروسي، ولذلك جاءت المناورات العسكرية الروسية – البيلا روسية وحشد ما يقارب من 150 ألف جندي روسي على الحدود مع أوكرانيا بمثابة رسالة تحذير إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل المضي قدماً في ضم أوكرانيا للناتو.

وبالرغم من تزايد توقعات العديد من المراقبين والمحللين السياسيين بأن الغزو الروسي وشيك على أوكرانيا، ودعم تصريحات القيادة الأميركية لذلك، إلا أن احتمالات حدوث هذا الأمر، برأيي، ليست كبيرة أو قابلة للحدوث للعديد من الأسباب.

أول تلك الأسباب، أن روسيا لن تستطيع بدء حرب على دولة بحجم أوكرانيا دون التسبب بأضرار ضخمة على الاقتصاد والداخل الروسي أولاً وخاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة عالمياً نتيجة تداعيات جائحة كورونا، أضف إلى ذلك، أن القيادة الروسية لن تتحمل خسارة توقف عوائد تصدير 40% من احتياجات أوروبا من الغاز الروسي.

ثم هناك السبب الأبرز لعدم قيام روسيا بغزو أوكرانيا، ألا وهو يقين القيادتين الأميركية والروسية أن حدوث ذلك الغزو سوف ينتج عنه مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا (واحتمال انضمام الصين لها) والولايات المتحدة الأمريكية وقد تصل تلك المواجهة إلى حد التلويح باستخدام السلاح النووي، وبالتالي حدوث الحرب العالمية الثالثة، ولعل قيام روسيا بتنفيذ مناورة استراتيجية نووية تحت إشراف الرئيس الروسي شخصياً مؤشر آخر للاستعداد الروسي.

ومع رصد كافة تلك التطورات، السياسية والعسكرية، بين روسيا وحلف الناتو، نستطيع القول إن الوصف الأقرب للصحة للوضع الحالي هو «استعراض القوة» بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية وحلفائها بهدف الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات السياسية، وبالتالي فإن الأزمة الأوكرانية قد تسهم في ترسيخ القوة العظمى الوحيدة عالمياً، وهي الولايات المتحدة أو عودة القوة العظمى الثانية، روسيا، إلى الساحة الأوروبية والعالمية وإعادة تشكيل المسرح السياسي الدولي.

* باحث إماراتي