الساسة البارعون والقادة المميزون يقودهم الوعي المتقدم في جميع قراراتهم وسياساتهم ومواقفهم، فيرون الواقع على حقيقته ويستشرفون المستقبل ويحوّلون العوائق إلى تحديات ومكتسباتٍ، هذا معطى حقيقي وعملي، يشهد به الواقع وتنبض به صفحات التاريخ وأحداثه. هاجس معرفة المستقبل أو التنبؤ به لم يزل يشكل مادةً تناولتها الفلسفة القديمة بطريقة اليوتوبيا أو الطوباوية والمدينة الفاضلة، وبطريقة فلسفة التاريخ التي تحاول في جانبٍ منها قراءة مآلات التطور الإنساني.

«علم المستقبل» أو«المستقبليات» هو علمٌ نشأ وتطور في السياق الحضاري الغربي، وتشكلت بداياته في المجال العسكري والاقتصادي والسياسي ثم أصبح شاملاً لغالب العلوم، وهو يسعى لتقديم قراءة تكتنز المعرفة التاريخية وتستحضر إمكانات الحاضر في رسم صورة المستقبل. الموقف المتوجّس والرافض لـ «الأصولية» و«الإسلام السياسي» جماعاتٍ ورموزاً وأيديولوجيا، في هذا السياق يدلل على رؤى القيادات في المنطقة والدول العربية، والحديث هنا عن ماضٍ بانت آثاره اليوم، ولكنه كان استشرافاً صائباً للمستقبل حينها.

تنطبق على «الأصولية» كلمة علي بن أبي طالب حين رفعت الخوارج شعار «لا حكم إلا لله» قال: «كلمة حقٍ أريد بها باطل» والأصولية المعاصرة هي امتدادٌ طبيعيٌ لفرقة «الخوارج». في 2009 وقبل أكثر من عقدٍ من الزمان نشرت بحثاً عن «السعودية والإخوان... الهجرة والعلاقة»، وغصت في كل مظان الكتب المعنية بموضوع البحث تنقيباً عن كلمةٍ شهيرةٍ للملك عبدالعزيز آل سعود قالها لمؤسس جماعة الإخوان حسن البنا، هي (كلنا مسلمون وكلنا إخوان) ولم أظفر بها في مصدرٍ موثوقٍ، فاكتفيت بأحد الكتب حينذاك لإثبات الكلمة لأنها معروفة، ولكنني بعد سنواتٍ طويلةٍ وقفت على نص الكلمة في كتابٍ رائقٍ للكاتب المعروف فؤاد شاكر، بعنوان «الملك عبدالعزيز... سيرةٌ لا تاريخ»، ووجدته يقول فيه ما نصه: «كانت مواسم الحج تحفل بعلية القوم، من كبراء المسلمين وزعمائهم، وكان الشيخ حسن البنا، من شهود أحد هاتيك المواسم، فتقرب من الملك عبدالعزيز وقال لجلالته، ما معناه، إن هذا بلد إسلامي هو عاصمة الإسلام، ونحن مسلمون وإخوان، وأريد أن تسمح لي بإنشاء شعبة للإخوان المسلمين في هذا البلد الأمين... لقد أجابه (عبدالعزيز) في ابتسامة مشرقة، وفي حزمٍ قويٍ، جواباً مسكتاً لا ردّ له ولا تعقيب عليه، قال له: يا أخي، لماذا ننشئ في بلادنا تحزباً وعصبيةً، والحقيقة، أننا كلنا مسلمون وكلنا إخوان».

كان المغفور له الشيخ زايد واعياً بخطر «الأصولية» وتحدث واتخذ قراراتٍ تاريخية في التسعينيات الميلادية ضد «الأصولية» و«جماعات الإسلام السياسي» وقادت دولة الإمارات وعياً متقدماً بخطرهم وتصنيفهم إرهابيين على المستوى العربي والدولي مطلع القرن الجديد، وأحداث التاريخ قريبة وحاضرةٌ.

كل قادة العالم الواعين يعرفون «الأصولية» ولكن بعض الدول تلاعبهم سياسياً وتستغلهم لضرب دولهم، كما صنعت بريطانيا مع «جماعة الإخوان» في بداياتها نهاية العشرينيات من القرن الماضي، وكما صنعت فرنسا في السبعينيات مع «الأصولية» بشقها الشيعي، حتى في بعض الدول العربية تاريخهم طويل واستغلالهم لضرب تيارات أخرى معروف، وانقلاباتهم ضد كل من تعامل معهم معروفة وحاضرةٌ.

عبدالناصر في مصر وبحكم خبرته «التنظيمية» مع «الضباط الأحرار» كان يتوجّس من «جماعة الإخوان»، ولذلك أخذ موقفاً حاسماً منهم لأنه علم جيداً أن هدفهم هو الوصول إلى السلطة بالعنف والتفجير والاغتيالات، وأنهم يستخدمون الدين مجرد «وسيلة» لتحقيق غاية الحكم. أخيراً، فضرورات السياسة على طول التاريخ تدفع القادة لاتخاذ قراراتٍ متوازنةٍ تجاه كافة التحديات، حدث هذا في كل العالم تقريباً، ولكن الوعي المتقدم يبقى قائداً ورائداً للدول والشعوب في الحاضر والمستقبل.

*كاتب سعودي