في السنوات الأخيرة كان التطور متسارعاً في العلوم والتكنولوجيا وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. صاحب ذلك تغير في الكثير من جوانب الحياة مما انعكس بالتأثير المباشر على سلوكيات الناس. سيطر ثالوث التكنولوجيا (شبكات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي والهاتف المحمول) على التفاصيل اليومية للفرد وتحقق للبشرية من خلالها الكثير من العوائد الإيجابية على مستوى الأفراد والمجتمعات، ولكن دائماً هناك جانب سلبي يجب أن نتوقف عنده ونلقي عدسة البحث والوعي عليه ونفكك مفرداته ونفهم آليات عمله حتى يمكن أن نتفادى تلك الآثار.

تأثير الفضاء الإلكتروني على الأمن الاجتماعي بدأ مبكراً مع إتاحة شبكة الإنترنت للاستخدام العام عند بداية تسعينيات القرن الماضي. ومع التطور واتساع سيطرة الفضاء الإلكتروني زاد هذا الأثر حتى وصلنا إلى أعلى مراحل التأثير المباشر والصريح في الأمن المجتمعي مع تزامن التطور في ثالوث التكنولوجيا الذي أثر بصورة عميقة في جميع المجتمعات حول العالم من خلال الالتصاق المباشر على مدار اليوم مع الفرد بواسطة الهاتف المحمول.

في النقاط التالية، أشير لبعض تلك الآثار السلبية: - ساعد الفضاء الإلكتروني على كسر العزلة الثقافية بين المجتمعات والشعوب، وفتح نوافذ واسعة للارتباط الثقافي بينها، واتسع حجم ونوع الأثر المتبادل بين الثقافات، فانعكس ذلك على الهوية والثوابت الثقافية لدى المجتمع. يُحدث ذلك نوع من خلخلة الإيمان ببعض ثوابت الهوية الثقافية، ما لم تكن ذات تأسيس قوي وراسخ. هذه الخلخلة تُحدث تصادماً مباشراً بين مستجدات أفكار الفرد وثقافة المجتمع.

ويمكن أن تخلق أجيالاً ذات علاقة متوترة وواهنة مع الموروث القيمي والأخلاقي للمجتمع وهذا مهدد صريح للأمن المجتمعي. - أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي والفضاء الإلكتروني خارج حدود السيطرة والرقابة، وأصبحت مؤثرة بل موجهة للرأي العام تجاه القضايا المتعددة. بالتالي يمكن أن تؤثر بصورة مباشرة على توجهات الأفراد والمجتمع. وقد يأتي هذا التوجه في اتجاه مؤثر على استقرار وأمن المجتمع. - من أهم المهددات الأخرى التي يتعرض لها الأمن المجتمعي العزلة الفردية التي صنعها الثالوث الذي أشرت له. فإن التصاق الفرد بهاتفه المحمول والرقمنة المتزايدة والمتسارعة ساعدت على العزلة. فاتجهت العلاقات الإنسانية حالياً إلى الاختزال في أشكال تعبيرية أو ما يسمي بالإيموجي. وتم افتقاد جزء كبير من التواصل الحقيقي والتعبير المادي عن المشاعر، والتي هي الداعم الأكبر لتقوية الروابط العائلية والمجتمعية التي تعمل على تماسك المجتمع.

فقد يكتفي أفراد العائلة بتهنئة أحد أفرادها بنجاح ما من خلال التعليق على شبكات التواصل الاجتماعي أو عبر رسالة «واتس أب». فغابت الحميمية والدفء الذي يتميز به التبادل المادي للمشاعر، واختفت خلف الشاشات الزرقاء لغة الجسد. كل ذلك يُحدث حالة تفكك ووهن في العلاقات الإنسانية التي تربط أفراد العائلة والمجتمع، ويزيد من مساحة تقوقع الفرد داخل ذاته. مع الوقت والتطور ستؤدي هذه العزلة المتفاقمة إلى تمزق الأواصر العائلية، وهذا من وجهة نظري هو المهدد الأكبر لأمن المجتمع وتماسكه.لا يتسع مقال واحد لعرض آثار الفضاء الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي على الأمن المجتمعي، وستكون لنا عودة في مقالات أخرى حول هذا الموضوع المهم، والذي يجب ألا نتوقف عن البحث والتفكير فيه وكيفية مواجهة هذه الآثار بطرق علمية سليمة.

مع ملاحظة أننا لابد أن ندرك أن فكرة المنع وفلترة المواقع الإلكترونية، ما عادت تعطي نتيجة وأصبح أثر المنع محدود، لأن شبكات التواصل الاجتماعي تحديداً لا يمكن التحكم في محتواها، وتطور البرمجيات أصبح مذهلاً، وما أسهل الحصول على البرامج الإلكترونية المجانية، التي تتخطى أسوار المنع. لذلك لو أننا توجهنا للطريق الصحيح لمعالجة تلك الآثار سنحقق نجاح كبير في الحفاظ على الأمن المجتمعي دون الانعزال عن العالم. الطرح الأهم لتحقيق المناعة هو الوعي والثقة الثقافية بالذات. وبناء أجيال تمتلك الوعي المبني على قدرات عقل نقدي متسع الأفق وصاحب ثقة قوية بثقافتنا وهويتنا. فهذه هي الدرع الأكبر والأشمل في حماية أمن المجتمع الإماراتي في مواجهة الآثار السلبية لثالوث التكنولوجيا وتحقيق الاستفادة من الجوانب الإيجابية والتي هي كثيرة جداً ومؤثرة بصورة مباشرة على المجتمع.

د. شما بنت محمد بن خالد آل نهيان*

*أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي.