مرعب هذا الاقتراب من الخطر النووي في وقائع الحرب الأوكرانية، فقبل الحريق في منشأة زابوروجيا كان التلويح بالسلاح النووي قد أصبح في التداول، إمّا للتهديد بـ«الردع» من جانب روسيا أو بالتحوّط والجهوزية من الجانب الغربي. ورغم أن كارثةً لم تقع، وأن المواجهة بالأسلحة النووية ما تزال مستبعدة، فإن الاحتمال يبقى عالياً لأن تتسرّب إشعاعات جرّاء إصابة مفاعلٍ ما خلال العمليات القتالية. لذلك ينبغي عدم استسهال هذا النوع من التلاسن، خصوصاً مع الذهاب بالعقوبات إلى حدّها الأقصى، بما تعنيه من انعكاسات سيئة ستَظهَر تباعاً في الاقتصاد الروسي. وفي المقابل، من الضروري أن يُترجَم إبداء القلق الشديد والتحذير من الخطر بالسعي إلى توافق صلب على ضمان سلامة محطات الطاقة النووية حتى في زمن الحرب.

لكن اللحظة الدولية الراهنة تبدو، للأسف، بعيدةً عن التضامن المطلوب، مع أن الدول المعنية وافقت حديثاً على تعهدّات بتحييد الشأن النووي عن أي صراعات. ولا يثبّت هذه التعهّدات سوى العمل الدؤوب الهادف إلى وقف الحرب، تمهيداً لإنهائها، وبالتالي إبعاد شبحها باتفاقات سياسية. دخل الطرفان الروسي والأوكراني في مفاوضات بدت أولاً بلا أفق، ثم دخلت في التفاصيل التقنية لآليات وقف إطلاق النار، فما يهم كييف أن يتوقّف التوغّل العسكري في أراضيها وأن تنسحب القوات الروسية إلى ما وراء الحدود، إلا أن موسكو تريد من هذا المفاوضات أن تلبي المطالب السياسية التي شنّت الحرب لتحقيقها.

بدهي أن أوكرانيا لن تستطيع الحصول على ما تطالب به في هذه المرحلة، وكأنها تنكر الواقع الذي فرضه الغزو. بدهي أيضاً أن روسيا لن تتمكّن من إملاء شروطها (الحياد ونزع السلاح) على حكومة أوكرانية قائمة تُراد إطاحتها وجيش لا يزال يحارب ويُراد تفكيكه، ثم إن هناك مقاومة رديفة لهذا الجيش قيد التنظيم والتطوير استعداداً لأزمة طويلة زمنياً.

ونظراً إلى التعقيدات لا بدّ من وسطاء، هذا ما أعلنه أحد مفاوضي كييف، وهذا ما توحي به أيضاً الاتصالات التي حرص الرئيس الروسي على إجرائها أو تلقيها من زعماء دوليين مختلفين، من الرئيسين الصيني والفرنسي وولي عهد أبوظبي والمستشار الألماني إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي. وهناك بالطبع أفكار ومبادرات يمكن تفعيلها في الوقت المناسب، لكن هناك أيضاً ضمانات يبحث عنها الطرفان وربما يصعب توفيرها في ظل حدّة الاستقطاب الحاصل. ويبدو أن اقتناعاً عاماً تكوّن لدى مختلف الوسطاء بأن الأوضاع ستسوء كثيراً قبل أن تبدأ بالتحسّن، بموازاة اقتناع آخر أكثر عمقاً بأن الحلول، لكي تكون ثابتةً ودائمةً، لا بدّ أن تكون سلمية عبر التفاوض والتفاهم، أي أنها لا يمكن أن تكون عسكرية بحتة.

صحيح أن هناك طرفين معروفين في هذه الحرب، إلا أنها تدور عملياً بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، والبعض يختزلها بمواجهة روسية أميركية عبر أوكرانيا (بالوكالة). لذلك تعاني المساعي السياسية لوقف الحرب من حلقة مفقودة هي عدم المشاركة الأميركية أو الغربية فيها. وقياساً إلى أزمات مماثلة، فإن الأطراف الغربية، خصوصاً تلك التي تشعر بتهديد روسي مباشر، أعدّت نفسها لأزمة طويلة ولمواكبة التطوّرات داخل أوكرانيا. لكن، في الانتظار، هناك متغيّرات ووقائع تتبلور، منها أن دخول أوكرانيا في حلف «الناتو» لم يعد وارداً، وأن العقوبات على روسيا ستكون موضع تجاذب طويل مع دول الغرب.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن