لا حديث يعلو فوق صوت المعركة والحرب التي تقرع طبولها بين روسيا والدول الغربية على أرض دولة أوكرانيا، فالحرب حين تقوم تعيد ترتيب أولويات الدول والشعوب، فإن كانت ذات صبغةٍ «عالميةٍ» غطّت على كل شيء. الساسة الغربيون والمثقفون والإعلاميون بكل مؤسساتهم وقدراتهم وباستخدام المؤسسات الدولية الكبرى يبدون في سباقٍ مع الزمن لإحداث أبلغ الضرر بروسيا وإنزال أفظع العقوبات باقتصاده.

الغريب أن هذا الاستعجال الغربي سريعٌ جداً، بينما التقدم الروسي يتم بهدوء وفق أجندةٍ عسكريةٍ متأنيةٍ، ولكن تصريحات المسؤولين الغربيين تتحدث أن بوتين خطط لهجوم «سريعٍ» على أوكرانيا وأنه «تفاجأ» بالصمود الأوكراني، بمعنى أن تقديم تفسيراتٍ للحرب بدأت في وقتٍ أسرع من الطبيعي.

على الرغم من كل ما تبديه الدول الغربية تجاه أوكرانيا إلا أنها عند التحليل والتدقيق لمسار الأزمة الأوكرانية تبدو وكأنها قدّمتها «طعماً» للجيش الروسي والدولة الروسية، وكما تحدث «بريجنسكي» مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي «كارتر» عن دخول الجيش السوفييتي لأفغانستان نهاية السبعينيات، وأنها فرصة لرد «جميل فيتنام» فيبدو أننا أمام مشهدٍ مشابهٍ، ولكن بعد مرور أربعة عقودٍ على ذلك الموقف القديم.

استخدام أدواتٍ قديمةٍ وبنفس الطريقةٍ ودون اجتهادٍ أو إبداعٍ يجبر المراقب على رؤية الصورة على وجه أوضح وتسهل حينها المقارنات والتنبؤات ما يوحي بتدنٍ في طبيعة النخب التي تدير الصراعات الدولية، والتي نجحت سابقاً في هزيمة الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الباردة.

ردة فعل الدول الغربية عبارة عن، ضغوط وعقوبات فورية، اقتصاديةً بالدرجة الأولى ضد روسيا، إرسال أسلحة نوعية لأوكرانيا، تجميع مرتزقةٍ منظمين وشركاتٍ حروبٍ أهليةٍ، و«الجهاد الإسلامي» أيضاً، وقد كتب الأستاذ مشاري الذايدي في صحيفة الشرق الأوسط في 28 فبراير متسائلاً: «أجهادٌ في أوكرانيا؟» لرصد هذه الظاهرة العجيبة. جماعات الإسلام السياسي وتنظيماته هي برسم «الخدمة» و«التوظيف» و«الخيانة» دائماً، وسيقف صفٌ منها مع روسيا وصفٌ مع الغرب، وسيرسلون الشباب للموت في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وسيصدر في الفترة المقبلة خطابٌ يشبه كتاب «الإخواني»  عبدالله عزام، ولكن هذه المرة بعنوان «آيات الرحمن في جهاد الأوكران». مما لم يحدث بعد، ولكن يمكن التنبؤ به أنه سيتم دعم اضطراباتٍ في الجمهوريات المحاذية لروسيا في أوروبا وآسيا الوسطى، وسيتم السعي لتوسيع «حلف الأطلسي» في دول غير أوكرانيا، وسيتم ضمّ أوكرانيا للاتحاد الأوروبي بسرعةٍ خاطفةٍ.

لا تخطئ العين الإجراءات المتسارعة ضد روسيا وما تشتمل عليه من «تناقضاتٍ» غربية ساطعةٍ بين الدعوة للديموقراطية والحرية وحرية التعبير تحديداً وبين فرض عقوباتٍ ديكتاتورية ضد وسائل الإعلام الموالية لروسيا، بما تشمله من إغلاق قنواتٍ ومواقع إخبارية وتجييش لشركات التقنية العملاقة وشبكات التواصل الاجتماعي.

كانت الانتقادات الغربية لبعض الدول العربية قبل سنواتٍ معدودةٍ عالية الصوت ومحذرةً من الاعتداء على «حرية التعبير» وحرية الإعلام والدول العربية لم تصنع شيئاً قريباً مما يجري الآن تجاه روسيا، ورصد هذا التناقض الصارخ يسهل على القارئ العربي إيجاد توازنٍ ضروري في رؤية هذا الصراع العالمي البعيد عنا جغرافياً ورصد أدواته واستراتيجياته وتكتيكاته.

الدول العربية المهمة: السعودية والإمارات اتخذت موقفاً عقلانياً متوازناً تجاه الأزمة يراعي مصالحها ومصالح شعوبها ويرصد سياسات الماضي والحاضر ويستقرئ المستقبل، وبالتالي فالانسياق الإعلامي العربي خلف طرفٍ ضد آخر في هذه الأزمة يبدو غير مبررٍ وغير منطقيٍ، لسنا طرفاً في الأزمة لا مع روسيا ولا مع الغرب. أخيراً، فمن أسباب ضعف الإمبراطوريات تاريخياً «التخلي عن الحلفاء» واهتزاز الثقة بينهم في مسائل لا تنفع فيها أنصاف الحلول، فالسيادة والأمن والاستقرار السياسي أولويةٌ لا يمكن التنازل عنها.

* كاتب سعودي