للأزمة الراهنة في أوكرانيا خلفيات أكثر عمقاً من الظاهر على سطح المشهد السياسي، خصوصاً في القارة الأوروبية التي تعيش ارتباكاً في العمق يهز منظومة قيمها التي اكتشفت فجأة أنها منظومة قامت على ما توهمه الأوروبيون كمنظومة اجتماعية قيمية موحدة، لننتهي اليوم بانقسامات لا يتحدث عنها أحد علناً، لكنها تجاوزت الهمس.
في وسط وشرق أوروبا عموماً، هناك منظومة قيم اجتماعية وأخلاقية ودينية مختلفة وراسخة أكثر من غرب أوروبا التي عصفت بها «النيوليبرالية» الاجتماعية، والتي كانت ذروتها قيماً جديدة مصبوغة بصبغة حداثوية إنسانية، لكنها تجبرت وغالت في فرض نفسها على الجميع حتى صارت هي بحد ذاتها إقصائية، وكان عنوانها «الصوابية السياسية والاجتماعية».
فكرة التصويب بحد ذاتها كانت مستفزة، لأنها وجهت إلى معنى أن كل ما هو موجود «خطأ»، وهو ما يتحدث به كثير من المجتمعات الأوروبية الآن بصوت مسموع.
ما علاقة ذلك بحرب روسيا وأوكرانيا؟
ببساطة، المشهد الروسي يمثل بعضاً من المفاهيم التي لا يرغب الأوروبيون برؤيتها من جديد بعد وضع السلاح أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكنه من جهة أخرى، ولكثير من الأوروبيين المتمسكين بقيم محافظة اجتماعياً، فإن بوتين يمثل بسلوكه وأفكاره وسياساته المناهضة بشدة للنيو ليبرالية الاجتماعية الصوت «الهامس» لتلك الفئات الأوروبية التي تتمسك بمفاهيم محافظة، ولو بالحد الأدنى، مثل الحفاظ على الروابط الزوجية ودور الكنيسة في الأسرة.
تلك القيم المحافظة لا تزال راسخة خصوصاً في وسط وشرق أوروبا، مما يجعل الأوروبي «المحافظ» في حالة ارتباك بالمواقف، فهو من جهة لا يريد رؤية حرب عالمية دموية مدمرة، لكنه وجد في ذات بوتين نفسه ما كان يخشى أن يجاهر به لعقدين ماضيين على الأقل أمام حركة ثورية راديكالية تهدد كل ما يؤمن به من قيم اجتماعية ومستعدة لإقصائه تحت عنوان «التصويب الاجتماعي والسياسي».
من نافذة الارتباك التي تتسع بهدوء حذر يوماً بعد يوم، يتسلل اليمين المتطرف لترويج بوتين اجتماعياً كمنقذ للقيم المحافظة التي يرى كثير من الأوروبيين أنها باتت مهددة وعلى وشك الانهيار.
لقد اشتغلت سياسات بوتين لسنوات طويلة وبذكاء شديد على تلك الزاوية المنفرجة في مثلث زوايا حادة صنعها «الثوريون الجدد» من النيوليبراليين.
منظومة القيم الأوروبية التي كانت تتغنى بالإنسان الواحد، مهما اختلف لونه أو عرقه أو معتقده، انهارت جميعها أمام أول لاجئ «غير أبيض» عبر الحدود البولندية، ووجد الأوروبيون أنفسهم في مساحة واسعة من الارتباك أمام أول امتحان أزمة حقيقي بعد وضع السلاح الأخير في الحرب العالمية الأخيرة.
حتى لو انتهت الحرب في أوكرانيا قريباً، فإنها كشفت عن صراع أوروبي - أوروبي يضع كل وحدة أوروبا في منطقة الأسئلة المسكوت عنها طويلاً، بين الشرق والغرب، بين القيم الليبرالية والقيم الثقافية العميقة.
كاتب أردني مقيم في بلجيكا.