يسألني صديق عمّا كنت أعنيه في مقالتي ما قبل الماضية بـ«المكون المدني الإسلامي» في النظام العالمي الجديد. ويتساءل: هل يمكن أن يكون العالم الجديد متعدد الأقطاب؟ وهل يمكن أن يكون أحد هذه الأقطاب بلا قوة عسكرية رادعة توازن وجوده بين بقية الأقطاب؟
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تشكل نظام عالمي جديد أنهى هيمنة دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) التي كانت تمثل خلال الحرب أحد الأقطاب الرئيسية في العالم، وسجنها خلف جدران سميكة من العقوبات المُذلة والتعويضات الكبيرة، وسمح في المقابل للقوتين الصديقتين/ العدوتين (الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي) في فرض شروطهما على العالم بما يتماشى مع مصالحهما في غياب كامل لأية قوى منافسة.
استمر الحال لأكثر من 45 عاماً حتى سقط الاتحاد السوفييتي بفعل عدم تناغم الأهداف الخارجية للدولة مع الحركات الداخلية المتصارعة، الأمر الذي جعل أميركا تنفرد بقيادة العالم حتى نهاية العشرين عاماً الأولى من هذا القرن.
واليوم نحن على أبواب تغيير كبير في توزيع القوى على الخارطة العالمية، فأميركا نفسها اكتشفت بعد ثلاثين عاماً أن قيادة العالم أمر مكلف لا تستطيع لوحدها تحمل تبعاته ونتائجه. وأدركت في السنوات العشر الأخيرة أنها غير قادرة على الوقوف بدون الاتكاء على عدو مصنوع! ويبدو أن المنظرين الكبار في السياسة الخارجية الأميركية اقتنعوا أخيراً بأهمية وجود نظام عالمي متعدد الأقطاب يحمي دولتهم من الداخل في مفارقة غريبة، فانفرادهم بالهيمنة في الثلاثين عاماً الماضية، ضاعف من وجود الانقسامات الداخلية التي قد تصل في سنوات قليلة مقبلة إلى صراعات إيديولوجية يصعب ترميمها تحت قبة مبنى الكابيتول.
أما الصين، الدولة العظمى التي تجلس على منجم ضخم من البشر والثروات فقد اقتربت كثيراً من قمة القطبية، ويبدو أنها في حال عدم دخولها حرب كبيرة خلال العشر سنوات المقبلة ستصبح لاعباً رئيسياً في صناعة مستقبل العالم.
ألمانيا كذلك، هذه الدولة المقيّدة حالياً بنتائج الحرب العالمية الثانية، لن تبقى كل الوقت محمية أميركية، ولعل الحرب الروسية الأوكرانية الحالية قد حركت في نفوس الألمان عنفوانهم القديم، ودعتهم لأن يفكروا في حماية أنفسهم بأنفسهم، مستغلين هشاشة التحالفات العالمية القائمة.
دول أميركا والصين وروسيا وربما الهند وألمانيا في المستقبل القريب، ستشكل النظام العالمي الجديد، وأظن أن هذه فرصة عظيمة لصناعة قطب إسلامي جديد يعمل بدور الوسيط بين القوى القديمة والقوى الصاعدة. قطب موازن لا أقل ولا أكثر، يضم الدول العربية والإسلامية الكبرى تحت مفهوم «عدم الانحياز» مع الأخذ بعين الاعتبار عدم تكرار أخطاء مخرجات «مؤتمر باندونج 1955» الذي وإن كان في ظاهرة تأسيس ل «حراك موازن» إلا أنه سقط في فخ طموحات زعماء صاعدين لهم مطامع خارج أجندة المؤتمر، بالإضافة إلى أنه جمع دول ذات توجهات مختلفة ومصالح شتى.
العلاقات الدولية قائمة عبر التاريخ على التوازن الديني، فلا بأس من تفعيل هذه الخاصية، إنما بغير التصريح المباشر بها.