قبل أن تنتهي الأزمة الروسية - الأوكرانية، بدأت الدوائر الأوربية الفكرية طرح علامات إستفهام، عن مستقبل القارة العجوز، وكيف ستمضي سياساتها في عالم جديد، لا سيما بعدما تأكدت قطعا، أن التحالف مع الناتو، ربما تجاوزه الزمن من جهة، وأن حقائق جديدة بسطتها روسيا بقوة السلاح باتت واقع حال من جهة ثانية.

على مدى سبعة عقود تقريبا، أعتبرت أوروبا تابعاً للولايات المتحدة الأميركية، ضمن إطار حلف «الناتو»، والذي كبدها أكلافا مالية عالية وغالية، كان ذلك تحت ذريعة مواجهة الاتحاد السوفييتي وبقية دول حلف وارسو سابقا، وقبل أن تبطل هذه الحجة. ولعل فترة رئاسة دونالد ترامب، قد بينت الشرخ الحادث في جدار «الناتو»، وبخاصة في ظل رفض الدول الأوروبية، المطلب الترامبي، الخاص بزيادة مساهمات الدول الأوربية في موازنة الناتو.

وإلى أبعد من ذلك، مضت بعض الأصوات ومنها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى المطالبة بتكوين جيش أوروبي مستقل، قادر على القيام بشأن الدفاع عن القارة العجوز عند الحاجة.

حين بدأت العمليات العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية، أعتبر البعض أن سيد الكرملين قد نفخ في جسد الناتو شبه الميت حياة جديدة، وأن الوقت قد حان لتجديد دماء الحلف، بعدما واجه الدب الروسي مرة جديدة.

غير أن الحقيقة وبعد أربعة أسابيع من إندلاع أعمال القتال، جاءت منافية ومجافية للإستنتاج السابق، إذ أكتشف الأوربيون حدود ما يمكن للناتو أن يفعله بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والتي توقفت تهديداتها عند أطر العقوبات الاقتصادية على روسيا، ومن غير أدنى مقدرة على إستخدام القوة العسكرية لمشاكة بوتين، خوفا من نشوب حرب عالمية ثالثة.

أدرك الأوروبيون ربما للمرة الأولى منذ زمن الحرب العالمية الثانية، أنهم واقعون بين مطرقة الأميركيين، وسندان الآسيويين، ممثلين في الروس والصينيين، واللذين بات حلفاً جديداً يجمعهما حتى وإنْ كان حلفاً براجماتي وليس حلفاً عضوي حقيقي. هل تصحو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وتتولى بدورها قضايا أمن وعسكرة القارة العتيقة، وتفسح المجال للناتو أن يتنحى جانبا، قبل أن يتقاعد مرة وإلى الأبد؟

لعله من المثير أن الأوروبيين أكتشفوا خلال أزمة أوكرانيا، أن مصالحهم الجيواستراتيجية موصولة بآسيا أكثر منها بالولايات المتحدة الأميركية، ولهذا وضح جيدا أن هناك فواصل بين أوروبا وأميركا، فواصل تتضح جلياً في تصريحات المستشار الألماني الجديد، أولاف شولتز، وبخاصة ما يتعلق بأمن الطاقة الأوروبي والحاجة إلى المزيد من النفط والغاز الروسيين، لاستمرار الحياة، في ظل أزمات إيكولوجية رهيبة، حذر منها قبل أيام الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.

أوروبا بعد أوكرانيا، ماضية ولاشك في طريق عسكرة جديدة، تبدأ من عند ألمانيا عينها، والتي رصدت نحو مائة مليار دولار كدفعة أولى في طريق تسليح مع بعد الناتو.

الأوروبيون يدركون الآن أن «البنتاجون» لن تدخل في حرب بهدف الدفاع عن الأوروبيين، ويعلمون أن هدفهم هو الحياة لا الموت، والتعايش الإنساني مع الجيران في آسيا، وبعيدا عن خطط التمدد العسكري التي أدت إلى الهجوم الروسي على أوكرانيا. الخلاصة أوروبا في حاجة لبديل أمني أفضل من «الناتو».

* كاتب مصري