قياساً إلى تجارب من الحروب السابقة، فإن ما يجري من مفاوضات روسية أوكرانية في إسطنبول، أو ترتيبات لفتح ممرات إنسانية تشارك فرنسا وألمانيا في تسهيلها، لا يعدو كونه محاولات لإنهاء مرحلة من الحرب في أوكرانيا، ولا يحمل بعد أي مؤشرات جدّية إلى وقفها. ففي غياب اتفاق على وقف إطلاق النار، وضعت موسكو انسحابات قواتها في محيطي مدينتي كييف وتشيرنيهيف في إطار «بناء الثقة» في المفاوضات، أمّا العواصم الغربية فلم ترَ فيها أكثر من «إعادة انتشار».

ومن الواضح أن وقف إطلاق النار مرتبط بالاتفاق على خطوط الانسحاب الروسي والحدود التي سيتراجع إليها، وهذان ممكنان لكنهما مرتبطان أيضاً بالاتفاق على القضايا السياسية الشائكة (الوضع الحيادي لأوكرانيا، مستوى تسلّحها، مستقبل الإقليم الشرقي/ دونباس وإمكان اعتراف كييف بانفصاله).

يبدو «الحياد»، بكل متطلباته السياسية والأمنية، مفتاح كل الاتفاقات المطلوبة لإنهاء الحرب. وهو مسألة دقيقة وحمّالة أوجه سبق أن طُرحت في فترات سابقة في أوكرانيا، منذ استقلالها عام 1991، ولم تحسم، بل بدت مستبعدة بعد أحداث عام 2014 حين تبلورت أولوية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وبالتالي إلى حلف شمالي الأطلسي (الناتو). آنذاك، لم تشرْ روسيا علناً إلى شرط الحياد عندما ضمّت شبه جزيرة القرم، ولا بعدما دعمت أنصارها في دونباس في سعيهم إلى الانفصال.

وفي الحوارات بين روسيا و«الناتو» جرى التطرّق إلى صيغ تقترب من الحياد ولم يُخَضْ في شأنه أي تفاوض هادف. ومثلما أن «الناتو» تجنب الوضوح في كونه لن يضم أوكرانيا إلى عضويته، كذلك تجنّبت روسيا الإفصاح عن أهدافها، إذ لم تكن راغبةً في حياد أوكرانيا، بل في ولائها لها، نظراً إلى موقعها الجغرافي والروابط التاريخية بين البلدين والشعبين.

لا شك في أن طرح الحياد في سياق اجتياح المدن الأوكرانية الكبرى وتدميرها، كأحد «شروط» وقف الحرب، بدا مطلباً روسياً تعجيزياً، واستشعرته كييف كشرط إذعان واستسلام، إلا أن رفض «الناتو» والاتحاد الأوروبي طلب ضمّها إليهما اضطرّها للقبول بمبدأ الحياد، ولم تعترض العواصم الغربية، أما موسكو فسرعان ما أشارت إلى نموذجَي النمسا والسويد، وهما عضوان في الاتحاد الأوروبي لكنهما خارج «الناتو» ولا حدود لهما مع روسيا. لكن شروط موسكو لحياد أوكرانيا لا بدّ أن تختلف، خصوصاً في الجوانب العسكرية والأمنية، وحتى السياسية والقانونية إذ يجب أخذ حقوق القومية الروسية في الاعتبار.

ولكييف شروطها أيضاً، فعدا تلك الإجرائية، كتعديل الدستور والاستفتاء الشعبي عليه، كذلك تنقيح القوانين.. هناك تعقيدات تتعلّق بخريطة البلاد وحدودها التي يجب ألا تتغير جرّاء الحرب، لكن روسيا ليست في وارد التراجع عن ضمّها شبه جزيرة القرم، وليس واضحاً ما إذا كان اعترافها بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك قراراً نهائياً أم ورقة للمساومة. وإذا اتُّفق على حياد أوكرانيا فإنه سيدوّن في معاهدة بينها وبين روسيا، لكن التفاصيل الصعبة كثيرة ويفترض ألا يكون الاتفاق عليها عاماً ومبهماً وقابلاً للتأويلات لاحقاً.

طلبت كييف «ضمانات أمنية» من ثماني دول، بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ولا يُتوقّع نظرياً أن ترفض روسيا ذلك وقد تطلب بدورها إدخال دول «ضامنة» أخرى. بدهي أن الدول الغربية لن تعطي ضماناتها ما لم تكن موافقةً على مضمون المعاهدة ومؤدّاها ومطابقتها للمواثيق والمبادئ الدولية. وهذا يفترض مسبقاً حسم قضيتي القرم وإقليم دونباس الانفصالي.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن