تعتبر الكرامة الإنسانية أحد الحقوق المكفولة للآدميين، والتي اتصلت بالمنحة الربانية المتلخصة في تكريم الإنسان عن سائر المخلوقات، فقد تميز بالعقل، وبحريته في الاختيار، وبمسؤوليته في حفظ الأمانة التي لم تقوَ على تحملها الجبال الرواسي.

إن لكرامة الإنسان أصولاً امتدت منذ بدء الخليقة، أي منذ أن بث الله تعالى فيها من روحه: «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ». لقد خلق الله الإنسانَ في أحسن تقويم، ولذا فقد حازت كرامته على الاهتمام ابتداءً من مكانته المكتسبة من الذات الإلهية، ثم لما يترتب على صونها، إذ لا تكون عمارةُ الأرض في الهيئة الواجب عليها دون أن تنطلق من استشعار الفرد بأن له كرامة مصانة من أي امتهان أو اعتداء، الأمر الدافع لهمته الساعية للنهوض بنفسه ومجتمعه من حوله.

ولضرورة تقدير تلك الكرامة التي تعتبر محوراً هاماً ومركزياً في صيرورة العالَم المتجه نحو طريق الخير، ابتدأت العديد من المواثيق الإنسانية والحقوقية التشريعية بالإشارة إليها، وعلى رأسها «وثيقة الأخوَّة الإنسانية» التي استهلت: «باسمِ الله الذي خَلَقَ البَشَرَ جميعاً مُتَساوِين في الحُقُوقِ والواجباتِ والكَرامةِ، ودَعاهُم للعَيْشِ كإخوةٍ فيما بَيْنَهم ليُعَمِّروا الأرضَ، ويَنشُروا فيها قِيَمَ الخَيْرِ والمَحَبَّةِ والسَّلام»، مشيرةً إلى أن الكرامة الإنسانية إحدى أهم المبادئ التي ضمتها الوثيقة، إضافةً لما خلق الله عليه بني البشر من تساوٍ في الحقوق والواجبات، وباعتبار هذه الأسس بمثابة دعوة صريحة تؤول لتحقيق العيش الإنساني المترابط والمتشبث بأواصر الأُخوة، وصولاً لأرض المحبة والسلام.

وما انفك مفهوم الكرامة الإنسانية يحظى بقيمة في المجال الدلالي والمعنوي، ويؤدي دوراً محورياً في تكوين عقلية الإنسان وتوجهه الفكري. وهذا لا يختلف من أصل لأصل أو جنس لجنس آخر، فهو مفهوم جامع مختص بالذات البشرية، ولو تعددت ألوان قرائنه الفلسفية عن تلك الحقوقية والدينية. وبالالتفات إلى الصبغة الفلسفية التي تناولت كرامة الإنسان، فقد ازداد نجم الحديث عن هذا المجال سطوعاً بعد القرن السابع عشر، وبخاصة في الأعمال الفلسفية التي أبحرت في نقد العقل العملي متمثلةً في «القيم المطلقة» لدى إيمانيويل كانط، فالكرامة الإنسانية متربعة على رأس عرش تلك القيم، وقد رأى كانط أن الإنسان كائن أخلاقي يتمتع بالعقل، ويشكل بحد ذاته ولذاته قيمةً مطلقةً، ومن ذلك فإن استغلال الإنسان أو استخدامه كوسيلة لتحقيق أهداف الغير «ممارسة غير أخلاقية» ومنزوعة من الإنسانية.

فكرامة الإنسان تتكئ على احترامه. وكل كائن عاقل، موجود كغاية بحدِّ ذاته. كما يقدر الفيلسوف كولن مكانة الإنسان وكرامته قائلاً بأنه «هو جوهر الوجود والعنصر الحيوي فيه، وهو المؤشر والمقوِّم الأساسي للكون. فالبشر هم مركز الخلق، وكل ما عداهم من مخلوقات يشكِّل دوائرَ متمحورة حولهم.. وبالنظر إلى كل ذلك التكريم الممنوح للإنسانية مقارنةً بما عداها من مخلوقات، يجب أن يُنظر إلى الإنسانية باعتبارها الصوت المعبر عن طبيعة الأشياء وطبيعة الأحداث».

والخلاصة من ذلك كله أن لكرامة الإنسان قدسية ومرتبة من الاحترام لا بد من تحقيقها، وهذا ما وجد اتفاقاً صريحاً في الأديان والفلسفات.. فإنسانية الإنسان جديرة بالاحترام، إذ تشكل بحد ذاتها قبعة احترام لا خلاف فيها، وهي بالفعل علاقة تبادلية؛ إذ أن احترامي للآخر وكرامته جزء من احترامي لكرامتي، و«إن الحد الذي يفرضه الإنسان الأخلاقي على مآرب اعتزازه بنفسه، احتراماً لكرامة غيره من البشر، يسمَّى (تواضعاً)».

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة