عام 1988، كتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي كتابه «آيات شيطانية»، فأصدر آية الله الخميني من مقره في طهران فتوى بهدر دم رشدي. قرأت الكتاب قبل سنوات طويلة، ولا أتذكر منه سطراً واحداً، فقد كان بالغ الرداءة من ناحية فنية وأدبية، لكن فتوى الخميني حوّلت الكتاب إلى أيقونة لا يستحقها، ومنحت سلمان رشدي شهرة عالمية، والمفارقة أن رشدي كتب بعد ذلك كتباً لاحقة، لم يسمع أحد عنها، فالرجل فعلاً متوسط الموهبة. ولأنها القضية الأكثر وضوحاً في التاريخ - بالنسبة لي على الأقل - فقد أطلقت عليها تسمية متلازمة «آيات شيطانية»، ولا أدعي سبقاً علمياً هنا، بل ملاحظة شخصية كمراقب لحالة أراها تتكرر كثيراً في كل المجتمعات والأزمنة.

الأمثلة التي سبقت «آيات شيطانية»، والأمثلة التي تلت تلك الحادثة الشهيرة كثيرة، ومتنوعة ومتفاوتة في نجاحاتها لتحقيق الشهرة منها ما بقي في أرضه، ومنها ما حقق لأصحابه ما يريدون قصداً أو بغير قصد. من ذلك مثلاً ما سمعته عن صحفي عربي مهاجر إلى الولايات المتحدة منتصف تسعينيات القرن الماضي، وقد سكن في حي عربي أغلب سكانه فلسطينيون، فكتب مقالاً افتتاحياً في مطبوعة كان ينشرها تحت عنوان «طز في الثورة الفلسطينية»، فنال من الشتائم والمسبات الكثير، لكنه أثار الضجة التي يريدها لبيع مطبوعته الدورية، التي لم تستمر طويلاً لرداءة المحتوى، وضعف الجودة المهنية. أردنياً.. وفي عام 2003، نشرت كاتبة أميركية من أصول أردنية اسمها «نورما خوري»، كتاباً على صيغة رواية وباللغة الإنجليزية، وكان عنوانه «عشق محرم- Forbidden Love»، تتحدث فيه عن تفاصيل جرائم الشرف في الأردن (وهي جرائم موجودة فعلياً)، لكن الكاتبة قدمت القصة على أنها واقعية تتعلق بصديقة مقربة لها.

الكتاب نشرته «راندوم هاوس» الشهيرة، وهي منصة نشر عالمية شهيرة، مما أعطى للكتاب قيمة مضافة بأضعاف قيمته الحقيقية، ليتبين بعد تحقيق صحفي أن الكاتبة لم تعش في الأردن، وقد هاجرت منذ طفولتها، وأن القصة الواقعية كما زعمت لم تكن إلا خيالاً محضاً، وهو ما وضع منصة نشر مثل «راندوم هاوس» في موقف حرج، ولم يسمع أحد بعد ذلك أي إنتاج للكاتبة خوري. من سوء حظ الكاتبة أن كل ما حدث معها ومع كتابها وكل تلك الضجة كانت في تلك الفترة التي كان الأردنيون فيها خارج مدارات وسائل التواصل الاجتماعي، وإلا لحصلت على دعاية مجانية واسعة وضخمة لا تحلم أكبر شركات الترويج الدعائي بتحقيقها.

وفعلياً، اليوم ومع زمن التواصل الاجتماعي «الافتراضي» نحن نعيش عصر «المؤثرين»، وهي وظيفة في فضاء واهم، لكنه ينتج في المحصلة وقائع وواقع غير معقول. يكفي أن يكتب أحدهم إشاعة «قوية» يتلقاها جمهور يبحث عن فريسته «الدموية» ليصبح المختبئ خلف شاشته مؤثراً في السياسة أو الاقتصاد أو الفن والثقافة، ومشهوراً بنجومية عالية كلها قائمة على عالم افتراضي. لقد تطورت «متلازمة سلمان رشدي» ولا حل إلا الجمهور نفسه..ووعيه، وربما يتطلب ذلك وقتاً كثيراً حتى نصل إلى غربلة ذاتية في كل هذا الفضاء المتخم بالصالح والطالح معاً في مساحة واحدة لا متناهية.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.