حين شاءت حكمة الخالق استخلافَ الإنسان وتقليدَه مسؤوليةَ إعمار ذاته وما حوله، مهّدت إرادةُ الله لذلك الإنسان البيئةَ الملائمة، وجعلت من الأرض نقطةَ الاستقرار لبني البشر. يقول تعالى: «ولكم في الأرض مستقرٌ ومتاع إلى حين».

وقد امتد أثر «أرض الاستقرار الأول» على الاستقرار النفسي للبشرية، وبالتالي سمحت بتطوره الفكر، متيحةً له كل ما فيها من موارد وثروات، لكنه للأسف قابلها في أغلب الأحيان بعدم صون المعروف، أي بمظاهر الجور والاستغلال إلى حد الإنهاك. وفي حين ترى الفلسفة الإيكولوجية أن الإنسان هو أحد المكونات الأساسية للبيئة، فإن الإنسان يصر في كثير من الأحيان على أن لا يكون عنصراً مشاركاً، بل طفرةً مؤذيةً.. الأمر الذي يتداخل والرؤية الموازية للعالم باعتباره آلة تحقيق مصالح. بيد أن الرأي الأكثر قبولاً ربما ذلك الذي ينظر للعالم باعتباره شيئاً مقدساً ويستحق الاحترام.

وقد لخص الفلاسفة أبرز المبادئ التي يمكن من خلالها التعرف على الفلسفة الإيكولوجية، والتي تنظر للعالَم كحَرَم يستحق التقدير. إن إجلال البشر للعالم ما هو إلا جزء من قيمة البشر أنفسهم، بل جزء من أسباب تحقيق السعادة الداخلية؛ إذ للتكامل بين الطبيعة والإنسان دور كبير وبارز لا يمكن استثناؤه، لا سيما أن الروحانية والعقلانية داخلتا ضمن ذات المعادلة، وبالتالي فإن النجاح في إصلاح الكوكب وصون الطبيعة هما ثمرة ترتوي من نجاح إصلاح الأفراد لذواتهم على وجه الحقيقة.

وهو بشكل مباشر الداعي لبروز أصوات تقول بزيادة الاهتمام بما يسمى «السياسة الخضراء» حول العالم، وبخاصة أنها حقيبة واسعة من الأيديولوجيات السياسية، الطامحة لإنجاح المشروع الإنساني الحضاري العالمي، الذي يتجه ببوصلته نحو إيجاد مجتمعات مستدامة بيئياً، بعيدة كل البعد عن ترهات العنف والظلم والفساد. وفي الأديان، وُجد ذلك الحيز أيضاً للبيئة، فقد حثَّت سنَّة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على الزراعة، كملمح مشير للحفاظ على خضرة الأرض من التصحر، إذ قال عليه الصلاة والسلام: «مَا مِن مُسلم يَغرِسُ غَرْسًا أو يَزرَعُ زَرْعًا فيأكُلُ مِنه طَيرٌ أو إنسَانٌ أو بهيْمَةٌ إلا كان لهُ بهِ صَدقَة».

وفي ذات الوقت فإن الإسلام يعتبر كافةَ الممارسات الضارة بالبيئة من العمل المذموم والمخالف للشريعة الإسلامية، فلا استسهال في قضايا الجور على ثروات الطبيعة، ولا قبول للاعتداء على الحياة البرية وحيواناتها، بل يندرج ذلك تحت القاعدة الفقهية: «ما أدى إلي حرام فهو حرام». ومعلوم أن الإيذاء المقصود وغير المبرر للبيئة سيؤول لهلاكها ومن فيها من أنفس، واستنفاذ ما تمتلك من ثروات وجدت بالأساس لاستثمارها لا بترها.

وقد ورد أنه «خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مُشيِّعًا لأهلِ مُؤتةَ حتّى بلغ ثَنيَّةَ الوداعِ فوقف ووقفوا حوله فقال اغزُوا بسمِ اللهِ فقاتِلوا عدوَّ اللهِ وعدوَّكم بالشّامِ وستجدون فيها رجالاً في الصَّوامعِ معتزلين للنّاسِ فلا تَعرِضوا لهم وستجدون آخرين للشَّيطانِ في رؤوسِهم مفاحيصُ فاقلعوها بالسُّيوفِ لا تقتُلُنَّ امرأةً ولا صغيرًا ضرعًا ولا كبيرًا فانيًا ولا تُغرِقُنَّ نخلًا ولا تقطعُنَّ شجرًا ولا تهدِموا بناءً».

فإذا كان ذا التشديد في النهي عن التعرض للأبرياء، والنهي عن إلحاق الأذى بمظاهر الطبيعة، من شجر ونخل وحيوان وبناء خلال الحرب، فكيف تكون نظرة الإسلام للطبيعة في الأوقات الميسورة من الحياة؟ إن قدسية الحفاظ على البيئة، انتقلت اليوم من قضية يلتفت لها الإنسان، إلى «همٍّ» ملزم بالعناية والتصرف السريع إزائها، تناغماً مع ظواهرها، وإنصاتاً حذراً لكافة تلميحاتها، والتي إما أن تنقلب لحال احترازي يقي من الوقوع في اللامحمود، أو الإسراف في اللامبالاة المهلكة لكافة ملامح الحياة والآمال المنعقدة فيها.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة