الحرب الروسية الأوكرانية حرب عسكرية خشنة ومباشرة، ومن خلفها حرب باردة جديدة كانت قائمة قبل الخشنة وأثناءها وستستمر بعدها، والخلط في المشاهد المتقاربة وعدم فرزها لفحصها وتحليلها يتم بطريقتين: الجهل بالفرق والجاهل يُعلّم، والخلط المتعمّد للتضليل وتزييف الوعي، وكلا الأمرين حدثا في مدة قصيرة. منذ بدأت شرارة المعركة الأولى في الحرب الروسية - الأوكرانية كانت كل المؤشرات تدل بوضوحٍ على أن روسيا ستنتصر بشكل كاملٍ وغير مشكوكٍ فيه.

فكل مقومات القوة بلا استثناء تميل للجانب الروسي لا الأوكراني، ولكن في الحرب الباردة لم ترد أميركا وبريطانيا والدول الأوروبية أن تقرّ بهذه الحقيقة، لأن حربهم مع بوتين ذات أبعاد وأهداف مختلفة، وكانت حملة تضليل واسعة ومنظمة أعشت الكثير من العقول عن رؤية ما يجري على الأرض.

الإقرار بانتصار بوتين بات يأتي من أميركا وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية، وإن على استحياء وخجل لأن المدة قصيرة بين مزاعم هزيمة بوتين في أوكرانيا وبين الحقائق على الأرض، وحبل الكذب قصير كما يقال، وبات مهماً لمن انساق وراء الدعاية الغربية أن يتبصر مواضع أقدامه في الأحداث القادمة، وأن الانسياق خلف الدعايات الضخمة دون تمحيصها بعقلانية وواقعية يودي بقراءة الأحداث وتحليلها بعيداً عن الحقيقة.

رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أقر بانتصار بوتين، الذي لم يشكك به عاقل من قبل، وتحدث عن تفاصيل القوة الروسية عسكرياً وجيوسياسياً وكأنه عرف عنها للتوّ، ولكنه كان منخرطاً في الحرب الباردة ضد روسيا أكثر من قراءة للحرب الروسية الأوكرانية، ومن هنا قد ينظر البعض لكلامه على أنه تناقض وهو ليس كذلك. المؤدلجون المتحمسون لا ينتصرون في الحروب الكبرى، وإن قادوا دولاً عظمى، وقد كتب كاتب هذه السطور وغيره منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية أن الهياج السياسي الغربي لحشد كل العالم ضد روسيا غير واقعي ولا عقلاني، واللغة المستخدمة والقرارات المستعجلة كان تشي بفشل التحشيد الدولي في بدايته وهو ما حصل بالفعل.

فشلت أميركا والدول الغربية في استعادة تحالفاتها القديمة حول العالم لأنها هي التي عبثت بها وتخلّت عنها، وفشلت في تحييد الصين عبر التخويف والتهديد، وفشلت في فرض عقوباتٍ تجبر «بوتين» على التراجع، وفشلت في شق وحدة الصف الروسية، وفشلت في مواجهة تحديات أسواق الطاقة، والوصف بالفشل هنا يراد به التوصيف فقط بعيداً عن أي أحكامٍ معيارية بالصواب أو الخطأ.

منذ بدء الحرب وقبلها، لم تخطئ عين المراقب في رصد تدني معايير الجودة لإنتاج النخب السياسية والعقول الاستراتيجية في أميركا والغرب، وفكرة «القص واللصق» المستوحاة من «السوشيال ميديا»، والتي تم استجرارها من حرب أفغانستان القديمة أريد تطبيقها على واقع شديد الاختلاف ومعطياتٍ شديدة التباين، وهذه وصفة مثالية للفشل. تحطيم «العولمة» ومؤسسات «النظام الدولي» وإن لم تكن غاية لصانع القرار الغربي إلا أنها كانت نتيجة حتمية لو استمرّ الهياج الغربي بنفس الحدّة وذات الاندفاع، والخلل الذي أصاب التحالف الغربي بين أميركا وبريطانيا من جهة والدول الأوروبية من جهة أخرى كان يمكن استنتاجه بسهولة لولا الحماسة والاندفاع.

لحظات هبوط الإمبراطوريات الكبرى وصعود منافسيها خطيرة على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، والعالم يشهد هذه اللحظة اليوم، وهي لحظاتٌ مفيدةٌ لمن يرصد ويتأمل ويحلل في بناء الوعي ومفيدةٌ أكثر لمن يبحث عن تعظيم المصالح وتعميق التأثير الدولي وبناء المستقبل. أخيراً، فلقد انتصر «بوتين» في الحرب الروسية الأوكرانية، ولكن الحروب الباردة قصةٌ أخرى ذات معايير مختلفة وأمدٍ زماني ومكاني أطول بكثير من الحروب الخشنة المباشرة.

* كاتب سعودي