عام 2003، وبعد عامين من سبتمبر الأسود، كنت أعمل في مركز الدراسات الدولية بجامعة نورث كارولاينا، وكنت ضمن نطاق عملي في التعريف بالشرق الأوسط وثقافاته وتاريخه مختلطاً بالمتخصصين والدارسين للمنطقة في الجامعة.
ذلك العام، كنا نعمل على تأسيس مكتب الدراسات الشرق أوسطية في المركز التابع للجامعة، وكان أن دعتني حينها الصديقة البروفسورة سارة شيلدز إلى استراحة بعد الظهر برفقة زوجها اليساري القديم ويليام «صاحب أجمل لحية أفلاطونية بيضاء» وذلك في مقهى من مقاهي تشابيل هيل الوادعة، على أن يتم تعريفي لشخصية أخرى أكاديمية محترمة.
الدكتورة سارة شيلدز هي أستاذة تاريخ الشرق الأوسط في الجامعة، وهي معروفة في الأوساط الأكاديمية برصانتها العلمية، كما أنها ابنة حاخام يهودي. وفعلاً، جاء البروفسور كارل إرنست، والذي يختص بدراسة تاريخ الأديان القديمة ومختص جداً بشكل خاص بالصوفية.
أدهشني تخصص رجل أميركي بالصوفية..وأدهشني أكثر حديثه من أنه سيتوجه إلى كاليفورنيا بعد أيام ليشهد كخبير في محكمة الولاية، في قضية منظورة بين شقيق وشقيقته، هما ورثة والدهما وهو ولي صوفي له مزار وأتباع بعشرات الآلاف!!
أثارت القضية انتباهي، فسألت البروفسور إرنست عن القصة فأخبرني حينها أن المتوفى هو أحد أولياء الطرق الصوفية وله حوزته الضخمة ومريدوه وأنه بعد وفاته ترك وراءه إرثاً ضخماً من الأموال والعقارات، والأهم أنه ترك أيضاً خلفه موقعه شاغراً كشيخ طريقة، وبناءً عليه فإن المحكمة ستنظر في من سيكون الولي شيخ الطريقة بعد المرحوم، وقد اختلف ابنه وابنته «الأميركان بحسب الولادة» وهما وريثاه الوحيدان من بعده، فالشقيق ينازع أن الأنثى لا حق لها بالولاية الصوفية، والشقيقة تدفع بحقوق المرأة والمساواة والقانون المدني!!
المحكمة وللإنصاف وضمن قواعد العدالة طلبت رأي الخبرة ورأت في البروفسور كارل إرنست خبيراً موثوقاً، وحين سألت البروفسور عن رأيه، قال إنه سيدلي برأيه في المحكمة على ضوء معرفته بالطرق الصوفية، وأن الولي شيخ الطريقة هو ذكر بالضرورة والعرف. وبعد صمت قليل قال لي ضاحكا: لكن من الممتع أن نرى لأول مرة شيخة طريقة في الصوفية.
وبعد هذا الحديث الطريف استطرد الرجل بالحديث عن معرفته بالدين الإسلامي والطرق الصوفية تحديداً، وأبهرني الرجل بمعرفته الواسعة في هذا المجال، وكان من رأيه الذي سمعته منه أن الصوفية بمعناها وأصلها المشرقي هي خلاصة التسامح الإنساني الذي قدمه المشرق للعالم.

كارل إرنست..كان قد ألف كتباً عديدة..ومن بينها كتاب أهداني نسخة منه بالإنجليزية عنوانه «Following Mohammad».
كارل إرنست «الله يذكره بالخير وين ما كان»..كتب لي إهداءً بخط يده وأحرف عربية جميلة قال فيها بكل تصوف:
(الصديق مالك..
كيف أقول هذا لي..وما لي).
مرت أعوام عديدة على تلك الحكاية وتلك الأحداث، وها أنا أقلب أوراقي وأتذكر عبارته الصوفية الواردة أعلاه، 
فعلاً..
كيف أقول هذا لي؟..وما لي!!
كاتب أردني مقيم في بلجيكا