مفهوم «الشهادة والاستشهاد» أتصرف معه بحذر شديد، فتلك صفات تعلق على رهن الغيب أمنيات الخلود الملامس للتقديس، وأنا بقرار ذاتي لم أعد أطلق صفة «شهيد» بالمطلق! المفهوم نفسه ملتبس ويصادر «ببساطة» عند المؤمنين، وكأنهم يصادرون حق الله في فرز البشر!
أغلب عالمنا العربي يضج «بالشهداء»، هو عالم من الحروب والنزاعات مبني على هؤلاء، ومنهم منذ بدء تاريخ المفهوم نفسه من حاربوا بعضهم ومنهم من كان قاتلاً لشهيد ثم شهيد مقتولا على يد شهيد آخر! والخطر أن هذا كله قد يفضي إلى إنتاج سلسلة دموية من الانتحاريين، أوربما يتم استخدام أي فكرة أخرى معلقة على الأمنيات ومرتهنة في ذمة الأساطير.
منذ الصفوف الابتدائية الأولى مروراً بكل مراحل التعليم ومكتسبات المعرفة في الحارة والشارع ودور العبادة «تلك تحديدا تم تفخيخها باحتراف» وليس انتهاءا بالبيوت والمقاهي وغرف التواصل الاجتماعي في العوالم الافتراضية، هناك دوماً استحضار لكل ما يعين الغيبوبة الجمعية على الاستمرار.
مررت في مراحل بحياتي أصدح مثل الجميع بابتهالات الموت من أجل الوطن، وكنت أحلم في يقظتي ببطولات تحتفل بي كمشروع استشهادي، ولا أنكر أن الأسفار المتعددة «بعقل مفتوح كشرط ضروري» كانت مفتاح الوعي بالحياة، لأتحول إلى مشروع حياة ما استطعت إليها سبيلا، وانتهيت إلى نجاح في الهجرة، هجرة ليست في الجغرافيا وحسب، بل هجرة في العقل والتفكير والهروب من الأسر الأزلي في قبضة الخيبة.
عملي كصحفي تطور أيضا، وجدت حدود المهنة التي كادت أن تضيع في فضاءات واهمة من ارتكاب السياسة أو التسلق عليها، المهنة: صحفي. مجرد كاتب صحفي يحاول تلمس الحقائق بقدر ما يستطيع من أدوات مهنية وحفر معرفي مستمر.
الحاضن الأساسي الذي أنعم به هو الدولة. في المهجر حيث أعيش وأعمل تعلمت بالخبرة اليومية وتراكم التجارب معنى أن تكون في دولة تلمس فيها حقوقك كمواطن ضمن منظومة قوانين وهيكل مؤسسات يحميك ويرعاك، وأنت جزء حيوي منه لا مادة خاملة فيه، الدولة لا تكون من دون مواطنة، والمواطنة لا تستقيم بلا قوانين تنظم العلاقات لها وفيها، والقوانين لا تعيش بلا مؤسسات منفصلة عن الأشخاص، والأشخاص أنا منهم، ومعهم بلا تمييز نقوم بتشكيل الدولة، هناك دولة نحترمها وتحترمنا بالقانون. 
لست مشروعا استشهاديا لأي أحد ولا لأي فكرة، أنا مشروع حياة أعيشها بكامل تفاصيلها ومثل غيري في «الدولة» حقوقي مصانة بقوانين ينتجها المجتمع بآليات ومؤسسات تتطور بتطور الوعي الإنساني.
ومما تعلمته، بعد طول ملاحظة وصبر: أن الديمقراطية ليست صناديق اقتراع ولا مبنى ضخما يتم تصدير «النخب» إليه، بل هي سلوك قائم على فهم «حكم الشعب لنفسه»، ولا يكون ذلك إلا بحكم الذات وتربتيها على احترام القوانين لا الخوف منها.
الديمقراطية، ليست ذات معنى ومجرد حشوة فارغة من كل مفهومها إن لم يكن هناك دولة مؤسسات وقوانين تكون حاضنا لها، وهذا لا يتأتى إلا بالوعي، والوعي لا يكون إلا بالمعرفة الإنسانية لا شعوذات الدجل والأساطير ومفاهيم العدم.
كاتب أردني مقيم في بلجيكا