الوفاء لذكرى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، ولذكرى المغفور له الشيخ خليفة بن زايد رحمه الله، من أسطع علامات الأصالة في دولة الإمارات شعباً وقيادةً. ومع هذا الوفاء تأتي الثقة بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، وقد عُرفت وخُبرت في عهد أخيه الراحل، وستتواصل مواكبتها في عهده، إماراتياً أولاً، ثم خليجياً وعربياً ودولياً، لأن فاعليتها باتت حيوية على المستويات كافةً. نادراً ما عَرف العالَمُ نموذجاً كالإمارات تتكامل فيه المراحل بهذا الوضوح، من التأسيس إلى التمكين إلى التحديث، ومن ثمَّ الاستمرارية داخلياً في التطوير والتحديث، مرفقةً بنهج سياسي خارجي فيه الكثير من الرؤيوية والديناميكية والشجاعة، ولأنه كذلك فإنه يفتح الآفاقَ على رزمة من رهانات وتوقّعات يُبنى عليها مستقبلياً للعلاقات العربية العربية والعلاقات مع الإقليم والعالم.
تبقى الاستحقاقات الداخلية هي الأولوية، منذ الوالد المؤسس حتى الآن، وقد ظهرت إنجازاتُها على كل صعيد، من الأمن كمدماك أول للاستقرار، إلى الاستثمار في النفط من أجل التنمية والإعمار وجودة العيش والعمل وجعل الإمارات دولةً جاذبةً للطاقات والكفاءات، وصولاً إلى الاستثمار في سبر الفضاء، كما في العلوم والطبابة والذكاء الاصطناعي وأحدث التكنولوجيات. لم يعد هناك مجالٌ في العصرنة والحداثة إلا طُوّعت الأرضُ والبيئةُ والطبيعةُ لاستقباله والتعايش والتكيّف معه. كان الشيخ محمد بن زايد كوليّ لعهد أبوظبي سبّاقاً في التنبيه شخصياً إلى اقتراب نهاية حقبة الاعتماد على النفط وضرورة، بل إلحاحية، التفكير والعمل لبناءِ اقتصادات ما بعد النفط. والراهن أن الإمارات بدأت فعلاً وستتابع مع الشيخ محمد بن زايد وضع البنى الأساسية لتكون جاهزةً ومؤهّلةً للتعامل مع هذه المرحلة الحساسة. 
وإذا كانت القدرات والمقوّمات في الداخل على قدر الطموحات مفتوحةَ الآفاق، فإن رفدها بسياسة خارجية طموحة أيضاً لا بدّ أن يعزّزها. وفي هذا المجال هناك بعضٌ من الرهانات بدأ يثمر وما يزال يتفاعل، وبعضٌ آخر يتبلور وما يزال تحت الاختبار. ذلك أن المتغيّرات تتسارع في البيئتين الإقليمية والدولية، والإمارات بين دول قليلة استبقتها بالتعرّف إلى اتجاهاتها (تعددية الأقطاب) ومخاطرها (صراعات قد تؤدّي إلى حروب، كما في أوكرانيا حالياً)، وأيضاً بالتهيّؤ للسباحة بين أمواجها من خلال انفتاح على الجميع من دون استثناء وعلاقات سويّة مبنية على التسالم والتفاهم. لأعوام قليلة خلت كانت الإمارات ما تزال تعتمد استراتيجياً على الولايات المتحدة، لكنها وسّعت شراكاتها مع الصين وروسيا وأوروبا والهند، ومع كل دولة لديها إضافة متميّزة في خدمة الاقتصاد المعرفي أو في المجالات الداعمة للأمن والمحفّزة للتنمية. ولعل هذا الوضوح في الرؤية هو مما يمكّن دبلوماسية محمد بن زايد من شقّ طريق إماراتي، وكذلك عربي، خارج الاستقطابات التي تفرضها حرب أوكرانيا وتداعياتها الصعبة.
قد تبدو تجربة الإمارات في التعامل مع الدول الكبرى ومصالحها أقلّ تعقيداً من التصدّي لحال التشرذم العربي المتداخل مع الصراعات الإقليمية لاقتسام العالم العربي. وفي هذا الإطار تحديداً اتخذت الإمارات بقيادة محمد بن زايد خيارات شجاعة، وتبقى الرهانات قيد الاختبار لأنها تتطلّب سياسات سليمة وقرارات صائبة من الآخرين. فمن جهة تصدّت الإمارات لمشاريع تسليم المنطقة لـ«الإسلام السياسي» عديم الوطنية والخبرة، ومن جهة أخرى تطلّعت إلى تغليب الطابع السلمي التعاوني على العلاقات مع تركيا وإيران وإثيوبيا وإسرائيل. وبمعزل عن المخرجات المتوقّعة، كان هذا الاستحقاق مطروحاً على المنطقة العربية منذ أواخر القرن الماضي، وتعذّر حسم القرار العربي في شأنه، ثم غدا مستحيلاً بعدما اندلعت أحداث «الربيع العربي»، لذا كان لا بد من تجاوزها.


كاتب ومحلل سياسي -لندن