تكلفة المعيشة ترتفع في جميع أنحاء العالم. وفي بريطانيا، سجل التضخم السنوي 9% في أبريل ليبلغ أعلى مستوى في 40 عاما، مع ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة. وتعاني دول غنية أخرى من ارتفاعات مماثلة في الأسعار، بما في ذلك الولايات المتحدة التي سجل فيها معدل التضخم السنوي الشهر الماضي 8.3%. لكن التكلفة الباهظة ليست مشكلة المناطق الأكثر ثراء من العالم وحدها.

فقد توقعت الأمم المتحدة أن يسجل التضخم السنوي على مستوى العالم 6.7% هذا العام، وأن الدول النامية في غرب آسيا وأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي ستشعر بوطأة التضخم. والأسعار ترتفع حتى في أفقر البلدان. فقد ذكرت «شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة»، التي تراقب انعدام الأمن الغذائي العالمي أن بعض مناطق اليمن التي مزقتها الحرب ارتفعت فيها تكلفة الأغذية الأساسية 85% في مارس مقارنة بالعام السابق.

وفي بعض البلدان، هناك عوامل خاصة بكل بلد تلعب دوراً، مثل «بريكسيت» وزيادة الضرائب في بريطانيا. لكن هناك طائفة من القضايا التي تتخطى الحدود تعطل النظام الاقتصادي العالمي الحديث وتحرك التضخم في جميع أنحاء العالم.

فأولاً، هناك فيروس كورونا الذي أصبح الاقتصاديون يؤرخون بظهوره بداية مشكلات التضخم العالمي. ومن الواضح أن انتشاره كان صدمة اقتصادية مع إغلاق الحدود والشركات والمصانع. لكن التضخم لم يبدأ في الظهور إلا حين بدأ العالم في التعافي من تلك الصدمة الأولية. ويرجع جانب من هذا إلى ما يسميه الاقتصاديون «تأثير القاعدة»، أي أن التضخم قصير الأجل أصبح أكثر وضوحا لأنه بدأ من قاعدة منخفضة، وهذا لأن الأسعار كانت ثابتة، أو حتى منخفضة خلال أسوأ فترات الجائحة. لكن ارتفاع الأسعار يتجاوز ذلك فيما يبدو.

فمع انخفاض الطلب واستمرار القيود المفروضة على السفر، انقلبت سلاسل التوريد رأسا على عقب. فإذا واجهت شركة لتصنيع سيارات في كوريا الجنوبية نقصا في أشباه الموصلات، فالتكلفة الإضافية لشراء هذه الرقائق تنتقل إلى المستهلك. وبعد أن أنهت الدول الإغلاق، حدثت زيادة في الطلب غالبا مما أدت إلى ارتفاع الأسعار، ولا سيما في الخدمات، مثل السياحة.

وثانياً، أدى الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير إلى حالة جديدة من عدم اليقين في الاقتصاد العالمي. وأثرت الحرب بشكل خاص على الطاقة والغذاء، وكلاهما قطاعان رئيسيان يرتفع فيهما التضخم. ومع خضوع روسيا، وهي مورد رئيسي للطاقة، لعقوبات وتعهد الحكومات في أميركا الشمالية وأوروبا بالتخلي عن الفحم والنفط الروسيين، واجهت أسر كثيرة ارتفاعات في أسعار الطاقة. كما يشار غالبا إلى أوكرانيا ومنطقة البحر الأسود الأوسع نطاقا باعتبارها «سلة خبز» أوروبا بسبب إنتاجها من القمح والذرة وسلع زراعية أخرى. وبعد أن قلبت الحرب قطاعاً كبيراً من هذه التجارة رأساً على عقب، ارتفعت أسعار المواد الغذائية العالمية واقتربت الآن من مستويات قياسية. وهناك آثار غير المباشرة كثيرة. فقد ارتفعت أسعار الذرة بسبب الطلب على الإيثانول، مع تقييد صادرات روسيا من الأسمدة. والبلدان التي تعاني أصلا من انعدام الأمن الغذائي تكابد أسوأ آثار ارتفاع أسعار المواد الغذائية. فاليمن، على سبيل المثال، تعتمد على أوكرانيا أو روسيا في 46% من وارداتها من القمح.

وثالثاً، هناك الصين التي كانت عاملاً رئيسياً في تحقيق النمو الاقتصادي العالمي. لكن المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها العملاق الآسيوي وخروجه طويل الأمد من الجائحة تساهم في مشكلة التضخم العالمي. وحذرت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني في بيان في الآونة الأخيرة من أن الإغلاق بسبب فيروس كورونا في شنغهاي ومدن صينية أخرى قد «يؤدي إلى تفاقم الضغوط على سلسلة التوريد العالمية ومخاوف التضخم». وأشارت الوكالة إلى حدوث انخفاض في حركة الشحن في ميناء شنغهاي مع عدم تمكن العمال من تحميل وتفريغ السفن بالوتيرة المعتادة.

ورابعاً. مشكلة المناخ. فقد أصبح يُنظر بشكل متزايد إلى الأحداث المناخية التي لا يمكن التنبؤ بها، مثل حالات الجفاف التي تلحق الضرر بالمحاصيل والعواصف التي تعطل طرق التجارة، باعتبارها عاملاً رئيسياً في ارتفاع تكلفة المعيشة. فقد شهدت الهند موجة حر قياسية أضرت بملايين السكان. واستجابت الحكومة الهندية بحظر صادرات القمح. وأعلن رئيس الوزراء ناريندرا مودي، في وقت سابق من الشهر الجاري، تعهد بلاده التي تمثل نحو ثلث إمدادات القمح في العالم، بالمساعدة في «إطعام العالم» في ظل أزمة الغذاء القائمة. لكنه حظر هذه الصادرات بعد ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير متوقع في موجة الحر التي قال العلماء إنها تفاقمت بسبب تغير المناخ العالمي.

والهند هي أحدث دولة تضررت من الطقس القاسي الذي دمر المحاصيل. فقد عانت البرازيل، وهي أيضا مصدر رئيسي للغذاء، من الجفاف العام الماضي الذي أضر بزراعتها. وبلغ معدل التضخم في البلاد أكثر من 12% في أبريل. ولا تتأثر أسعار المواد الغذائية وحدها. فالخشب أصبح أكثر تكلفة بعد وقوع فيضانات وحرائق في مقاطعة «بريتش كولومبيا» الكندية مما يؤدي إلى آثار غير مباشرة على الإسكان والبناء. كما تضع مساعي الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر مزيدا من الضغط على أسعار سلع مثل الليثيوم المستخدم في البطاريات والنحاس في الأسلاك وشرائح الكمبيوتر. ويرى عدد من الخبراء أن هذا «التضخم الأخضر» مؤقت والاقتصاد الأخضر سيصبح في نهاية المطاف أقل عرضة لصدمات الطاقة، لكن النفقات قصيرة الأجل للانتقال قد تعرقل التحرك نحو ذلك الاقتصاد.

وخامسا، يجادل بعض الاقتصاديين بأن التضخم نفسه قد يؤدي إلى مزيد من التضخم إذا بدأ العمال والشركات في توقع ذلك ومع المطالبة برواتب أعلى أو أسعار أعلى للسلع. وهذا يخلق في الواقع نبوءة ذاتية التحقق. وهناك وسائل أخرى قد يؤدي بها التضخم في بلد ما إلى تضخم في بلد آخر. فقد أدى التضخم في الولايات المتحدة إلى ارتفاع قيمة الدولار مع توقع المستثمرين ارتفاع أسعار الفائدة. كما وجدت بلدان كثيرة أن عملتها أقل قيمة بكثير مما كانت عليه قبل عام أو عامين. وفي تركيا، انخفضت قيمة الليرة وهذا يعني أن الواردات تكلف مبالغ ضخمة من المال. وبلغ التضخم السنوي في تركيا نحو 70%.

وزيادة أسعار الفائدة ستضر بالبلدان المثقلة بالفعل بالديون، مما يجعل من الصعب عليها تقليص التضخم. وحذر صندوق النقد الدولي الشهر الماضي من أن البلدان في الأسواق الناشئة التي اقترضت بالفعل بكثافة لتمويل تدابير الإغاثة من الوباء تعرضت لخطر الوقوع في «دورة هلاك» قد تؤدي، في أسوأ احتمالاتها إلى عجز الحكومات عن السداد.

*صحفي  بريطاني متخصص في الشؤون الخارجية.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»