يعتبر التنوع أو التعدد، أحد الأسس المركزية التي قام عليها خلق الكون، منذ أن شاء له الله أن يكون، وهو عز وجل من قال: «ومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ».

إن وصول الإنسان لتصالح مع الذات التي تقر بفطرية وجوده، واختلاف غيره دون عوائق فكرية حادة، يكاد يمثل المفصل «اللين» الذي يسمح لجسد التطور الإنساني بالحركة، دون احتكاك مؤرق، لاسيما أنه حين ينعدم ذلك الفهم تساق المشاحنات وتثار النزاعات القائمة على بقاء الأفضل، بتقرير ينعدم للمصداقية والدقة، فتطفق كل شريحة لمفاضلة ذاتها، دون الوعي بوجود الآخر وضرورته.

الأمر الذي يفضي لتصدير حالة من الظلم لا تؤول إلا للخراب الفكري والسلوكي المنعكس على الواقع، مما يشل كافة الخطط النهضوية أو الدافعة بسمو القيم الأخلاقية والإنسانية، باعتبارها أساساً وضرورة ملحة. وفي الوقوف على النتاجات الإنسانية المنبثقة من البحث والمدارسة حول التعدد وماهيته ومدى حاجة المجتمعات للثراء التعددي، نلحظ أنها مجتمعةً شكَّلت سلسلةً محكمةً متناسقةً ومتوافقة في الأخلاق الإنسانية، كما أخذ من صلبها العديد من النظريات الفلسفية المؤسِّسة للمنهج العقلاني والواقعي، القادر على استيعاب كل الاختلافات وصهرها في بوتقة متناغمة شكّلت أنموذج الفكر الإنساني المعاصر، ناهيك عن جهود العلماء والفلاسفة إزاء «إطار التعدد الجامع» من القيم والأخلاقيات الإنسانية. وفيما يتعلق بحتمية «الاختلاف»، فقد قال الحق تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»، فهذا يمثل تعبيراً صريحاً عن كينونة العالم. والناظر في تعاليم الأديان السماوية يقف على احترامها للتعدد، مما يعني رفض النزعة المركزية الاستعلائية، وأن العالَم لا يمكن أن يكون وليد نمط مقولب جامد، لذا مهَّدت الأديان بالتأسيس لوجود حوار يرسخ قيم التوافق والتعاون والاندماج.

وفيما يتعلق بماهية التعددية الدينية، ذهب بعض الفلاسفة والمفكرين لاعتبارها شيئاً غير موجود إذا ما علمنا أن فطرة الإنسان هي فطرة واحدة، وعليه فإن الدين المدبّر لشؤونها، والمختص بالحكم عليها هو دين واحد كما أن فطرتها واحدة، وهذا لا يتناقض مع تعدد المرسلين من الأنبياء، الذين واءمت دعوتُهم الظروف الزمانية والمكانية المتناسبة وطبيعة حياة أقوامهم، لاسيما أن كافة الأنبياء توحدوا في الأسس العامّة والمبادئ الثابتة. ومن ذلك جاء الرأي القائل بأن الصواب ما يتمحور حول إمكانيّة حصول التعدّد في الشرائع على مر العصور في رحاب مظلة دينية كبيرة واسعة جامعة واحدة.

إن التعددية الدينية مهما اختلفت أنواعها وأشكال وجودها تسوق، من حيث هي وحدة المتعدد وتعدد الواحد، إلى الاعتراف بالآخر واحترام وجوده. فالتعددية الدينية تقفز عن حدود المفاضلة ونزعة الاستعلاء، وتمثل انعكاساً لـ«ضرورة الاعتراف المعرفي وليس فقط الاجتماعي والأخلاقي بكافة الأديان والمذاهب، وإعطاء المعذورية للمؤمنين بها، وبالتالي عدّلت مفهوم النجاة الذي كان يعني في الماضي حصر الخلاص في طائفة دينية واحدة بحيث صار أكثر شمولاً واتساعاً ليشمل أكثرية أبناء الديانات والمذاهب، كما غيرت مفهوم التعايش من مجرد كونه ضرورة مرحلية إلى حاجة إنسانية ثابتة» كما ورد في أحد المجلات الفلسفية عن الفيلسوف حيدر حب الله.

إن فهم ماهية التعدد يعني ضمان التفاعل المتناغم، وتحقيق العيش المطمئن بين بني البشر على اختلافهم، وصولا لتعاضد إنساني ناضج غير قابل للشرخ، وإحكام روابط إنسانية سامية منسجمة النواحي الأخلاقية والاجتماعية والثقافية والفكرية.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة