ما  تزال روسيا ماضية في مسارات العملية العسكرية على أوكرانيا، ولم تتوقف بعد عن نقل رسائل عسكرية واستراتيجية للولايات المتحدة، ولدول حلف «الناتو»، وهو ما برز في خطابها السياسي مؤخراً مع الالتحاق الفنلندي والسويدي بالحلف، الأمر الذي يكشف عن مقاربات جديدة في ملف الحرب الدائرة في أوكرانيا، وسيحدد مصير العلاقات المستقبلية بين روسيا والحلف من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر.

وثمة تطورات هيكلية أهمها تلويح روسيا مجدداً، بقدراتها النووية، والتي رأت أنها تشكل ضمانة لكبح جماح في مواجهة من يسعون إلى حرب عالمية ثالثة، واستمرار المواجهات على الرغم من تأكيدها على مواصلة الالتزام بالاتفاقات التي تم التوصل إليها على المستوى الدولي والمنصوص عليها في الاتفاقيات الرئيسية المتعلقة بالسلاح النووي، وما زالت روسيا تؤكد على أن التوجهات الغربية تهدد البنية الأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وتزعزع الاستقرار في العالم بشكل عام.

وقد تزامن مع ذلك المشهد ترويج روسيا لجيلها الجديد من أسلحة الليزر، والذي تم تطويره بهدف تعطيل الأقمار الصناعية التي تدور في مدارات حول العالم وتدمير الطائرات المسيّرة، إضافة للإعلان عن مجموعة من الأسلحة الجديدة، منها صاروخ باليستي جديد عابر للقارات، ورأس حربي نووي صغير يمكن تركيبه في صواريخ كروز، وطائرات مسيّرة نووية تحت الماء وسلاح أسرع من الصوت الأمر الذي أدى لارتفاع الإنفاق الدفاعي الروسي بنسبة نحو 40%خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام. وسيدفع الحكومة الروسية للجوء لصندوق الثروة الوطنية الروسي، لتغطية العجز، ودعم قيمة الأسهم والسندات التي تراجعت بصورة لافتة.

وسياسياً تجنبت روسيا التعليق على الجدال الجاري بين تركيا وحلف «الناتو» بشأن ضم السويد وفنلندا إلى الحلف، واعتبار ذلك مسألة علاقات بين هذه الدول، وعلاقات داخل التحالف نفسه. مع الإقرار بأن موقف روسيا من توسع «الناتو» معروف، وقد دخلت روسيا الحرب على أوكرانيا لتحقيق متطلباتها الأمنية والاستراتيجية ليس تجاه دولة واحدة، وإنما تجاه النطاق الإقليمي، أو ما يعرف بالفضاء الروسي الكبير وفقاً لتعريف الأمن القومي للدولة الروسية في مدارات النفوذ الروسي الراهن.

وقد تبنت روسيا سياسات متعددة مكملة، منها الإعلان على أنها ستمول إعادة إعمار الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها، وستصلح الطرق التي تربط تلك المناطق مع روسيا بما في ذلك محطة زابوريجيا للطاقة النووية، وهي الأكبر في أوروبا من حيث القدرة، حيث ستزود روسيا وأوكرانيا بالطاقة في حال دفعت الأخيرة مقابل ذلك، وكان هذا الأمر محل تفاوض في المفاوضات الروسية الأوكرانية مؤخراً ضمن بنود أخرى للتفاوض.

وقد قدر وزير الخارجية الأوكراني «دميترو كوليبا»، تكلفة إعادة الإعمار لدمار الحرب في أوكرانيا، بنحو 1.1 تريليون دولار، فيما اقترحت أوكرانيا استخدام جزء من أصول الأثرياء الروس التي تم تجميدها في الدول الغربية (جمدت الولايات المتحدة والدول الغربية أصولاً تقدر بنحو 300 مليار دولار تابعة للبنك المركزي الروسي)، إلا أن وزيرة الخزانة الأميركية «جانيت يلين» اعتبرت هذا الإجراء المقترح أوكرانياً غير قانوني وسيكون له تبعاته برغم إقرار الدول السبع الصناعية بحاجة أوكرانيا لمساعدات مالية بنحو خمسة مليارات دولار شهرياً لدفع رواتب موظفي الدولة، وحتى تواصل الحكومة العمل في ظل استمرار العمليات العسكرية، ومن شأن تمرير حزمة تمويل قصير الأجل كالتي وافقت عليها مجموعة السبع أن تغطي احتياجات أوكرانيا لثلاثة أشهر وليس أكثر.

مجمل القول إننا أمام مشهد مفتوح على كافة السيناريوهات سياسياً واستراتيجياً، وفي ظل مقاربات متعددة على مسارات مختلفة أهمها استمرار حالة عدم الاستقرار إقليميا ودولياً، وهو ما سيرتب مساحات من التوافقات الشكلية والجوهرية داخل «الناتو» من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، وفي ظل علاقات مفتوحة مع روسيا، وضمن استراتيجية توسيع منظومة العقوبات، وتطويرها برغم التجاذب بشأن الحزمة السادسة من العقوبات، وكذلك إعلان موسكو بأن الاقتصاد الروسي تجاوز الصدمة الأولى من العقوبات التي فرضت على قطاعات متنوعة للاقتصاد الروسي، وبعد أن دخلت الحرب شهرها الرابع.

* أكاديمي متخصص في العلوم السياسية والشؤون الاستراتيجية.