العلم والمعرفة مقصد إنساني نبيل، وغاية لكل متطلع للتقدم والرقي، أفراداً ومجتمعاتٍ، دولاً وشعوباً، وطرق العلم شتى وسبل المعرفة متعددة، والكتاب كان ولا يزال وسيظل طريقاً لاحِبَاً للعلم وسبيلاً منيراً للمعرفة.

اختتم معرض أبوظبي الدولي للكتاب بالأمس فعالياته وأنشطته، وبقي أثره في بيت كل زائرٍ اشترى كتاباً أو حضر ندوةً واقتبس فكرةً أو التقى مثقفاً وحاوره وبنى معه جسور تواصلٍ، فالعلم رحمٌ بين أصحابه، والعلم يزيد بكثرة الإنفاق منه.

الثقافة ليست عبثاً ولا بهرجاً من القول ولا زينةً للتجمّل والتزيّد، بل هي عملٌ مضنٍ يحتاج جهداً جهيداً وعملاً دؤوباً يورث العلم، والعلم كله خيرٌ، والأنشطة الثقافية في دولة الإمارات شهدت في العقدين الماضيين تطوراً ملحوظاً بنى على ما سبقه ويؤسس لما بعده، وكل جهدٍ في الثقافة مشكورٌ وكل نشاطٍ محمود.

منذ سنواتٍ طويلةٍ وكاتب هذه السطور وغيره يؤكدون أن الحراك الثقافي العربي بات خليجياً بامتيازٍ، بعدما خسرت عواصم الثقافة العربية التقليدية أدوارها القديمة لأسبابٍ شتى منها الأيديولوجيا المنحرفة يسارياً وعروبياً وإسلاموياً ومنها التضعضع الاقتصادي الذي عانت منه تلك الدول، ومنها النشاط والناشطون بلا زمامٍ ولا خزامٍ، لا في الثقافة والعلم، بل في «التثوير» و«الحشد» و«الشعارات»، مثلما جرى في زمن الفتنة المسمى زوراً بـ«الربيع العربي».

في أروقة معرض أبوظبي للكتاب لا تخطئ العين دور النشر العربية المهمة والمتميزة التي تزخر بإصدارات تستحق القراءة والاقتناء، ولا تخطئ العين الندوات الثقافية في أجنحة المعرض المتعددة وجدل المثقفين في كل مجالٍ وكل فنٍ، من الفلسفة إلى الشعر، ومن الدين إلى التنمية، وفي كل مجالٍ متخصصون وفي كل فنٍ قادةٌ ومؤثرون.

مراكز البحوث واحدةٌ من مؤشراتٍ نهوض الأمم وانتشار الثقافة وتركيز التأثير، تتبعاً واستقصاءً، بحثاً ودراسةً، سيناريوهاتٍ ورؤيةً، وبنظرةٍ سريعةٍ تجد «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية» الذي بُني على أسس علميةٍ متميزةٍ ويشهد تطويرات يشرحها لك بثقةٍ ومعرفةٍ شبابٌ إماراتيون، ومشروع «مفكرو الإمارات» والاستثمار في «التقنيات الجديدة» شواهد على ذلك التطور.

«مركز تريندز للبحوث والاستشارات» و«مركز المسبار للدراسات والبحوث» ومراكز بحثية خليجية متعددةٌ تعرض بحوثها وكتبها وإصداراتها للعموم ما يجعل سبل نشر المعرفة، معلومةً وتحليلاً أسهل وتراكم التجارب والخبرات أسرع وأجدى، هذا فضلاً عن دعمٍ حكوميٍ غير محدودٍ للكتاب وأثره وتسهيل اقتنائه والوصول إليه، ودعم المثقفين والمفكرين وتعبيد طريق الثقافة للشباب والأجيال الجديدة.

«جائزة الشيخ زايد للكتاب» واحدةٌ من أرقى الجوائز العربية التي تدعم الثقافة والكتاب وتعلي من شأنهما وشأن المثقفين والمؤلفين، وهي مثالٌ على الريادة الخليجية في مجالات الثقافة التي باتت حديث العرب من المحيط إلى الخليج، وأصبح الخليج بعدما كان مستهلكاً للثقافة مشاركاً في إنتاجها ورعايتها ودعمها، وهي خطوةٌ كبرى في الاتجاه الصحيح.

علو كعب الثقافة الخليجية شواهده وروافده متعددة في مجالاتٍ مهمةٍ وفاعلة، في التعليم والتعليم العالي، وفي الثقافة بكافة أبعادها كما في الفنون والإعلام، وفي العالم الافتراضي بكل مجالاته، وفي التأسيس الرؤيوي لكل مجالات العلم والمعرفة، ورعاية الإبداع والمبدعين وتنمية العقول والرهان على بناء الإنسان.

أخيراً، فثمة معوقاتٌ في كل جيلٍ تواجه الثقافة، وتحدياتٌ تقف في وجهها، لا في دول الخليج والعالم العربي فحسب، بل في العالم كله، ومن أكثرها تأثيراً في هذه المرحلة التاريخية تضخم «السوشيال ميديا» واستهلاكها للوقت والجهد، ومنها «التفاهة الممنهجة» التي باتت تطغى على كل شيء تقريباً، بحيث أصبح العلم والثقافة والجد والاجتهاد عملاً متهماً وسلعةً غير مرغوبةٍ.

*كاتب سعودي