الاستراتيجية في المجال السياسي والاقتصادي لدولة ما علمٌ يهتم بالتعبئة القصوى لقوى الدولة السياسية والاقتصادية، وتوفير الدعم الأقصى للسياسة التي تتبناها الدولة في السلم والحرب، وهي أيضاً في المجال العسكري علم وفن يختصان بإدارة الحرب والاستعداد لها وقيادة الصراع المسلح مع العدو، وتوفير الظروف المناسبة لخوض هذا الصراع. وبالطبع فإن الاستراتيجية السياسية تعبير مجازي لفن وضع الخطط وتصميم المناورات لتحقيق هدف ما، أو هي خطة مدروسة بشكل علمي وأسلوب مدقق تم تقييمه ومناورة بارعة في كل اتجاهاتها، وهي أيضاً نمط من التفكير والدراسات والبحوث حول الطاقات والقوى المتاحة، وتوفير الوسائل لتحقيق أهداف السياسة بشكل مباشر أو غير مباشر.
سنتفق اليوم، أن العالم هذه الأيام، وبعد جائحة كورونا تحديداً، والحرب الروسية الأوكرانية، قد فقد بوصلته الاستراتيجية، سواء على المستوى الدولي، أو على مستوى الولايات المتحدة التي يفترض بها قيادة العالم، وأصبحت الفوضى عارمة، وباتت أميركا، في وضع لا تُحسد عليه، أمام التجمعات الإقليمية الواقعة في روسيا والصين، وكوريا الشمالية وإيران، وحتى في إقليم الشرق الأوسط وعلاقتها مع كل من دول مجلس التعاون الخليجي وكذلك تركيا وإسرائيل.
أين هي الاستراتيجية الأميركية التي كان واجبها الأول والأساسي منع التصعيد مع روسيا لتوسعة «الناتو» وجرّها للحرب في أوكرانيا وتهجير الأبرياء من الأوكرانيين وتحطيم سلاسل توريد العالم من الغذاء والتسبب في رفع أسعار النفط والطاقة لإرهاق المليارات من البشر حول الكرة الأرضية؟ وفوق ذلك التصعيد مع الصين إلى أقصى الحدود بقول الرئيس الأميركي «الصين تلعب بالنار» وأن «الولايات المتحدة سترد عسكرياً إذا غزت الصين تايوان»؟ إضافة إلى ذلك التصعيد مع كوريا الشمالية من خلال مناورات عسكرية مشتركة مع كوريا الجنوبية تشمل حاملة طائرات أميركية قرب جزيرة أوكيناوا اليابانية! وهل هذا هو الوقت المناسب لإجراء عمليات الدفاع الجوي ومكافحة السفن والغواصات وعمليات الاعتراض البحري في تلك المنطقة الملتهبة من العالم وإعطاء كوريا الشمالية أية ذريعة للتسبب في حرب نووية عالمية؟
يبدو جلياً، أنه ومنذ تولى الرئيس الأميركي بايدن السلطة، في يناير 2021، ولغاية اليوم، قد تبدلت مضامين الاستراتيجية الأميركية تبدلاً كلياً، وتبدلت معها أهداف الولايات المتحدة السياسية وموقفها الدولي تجاه معظم القضايا الأساسية والمصيرية حول العالم، مثل موقفها من السلام في الشرق الأوسط، ورغبتها في العودة الهشة للاتفاق النووي مع إيران، وزيادة غضب الشرق إلى أقصى درجة ممكنة.
في المفهوم الاستراتيجي، كانت معظم البلدان الغربية ترى ضرورة عدم خوض حروب طويلة الأمد، قبيل الحرب العالمية الأولى، لكن فشلت محاولات الحلفين المتحاربين في إيجاد حلول تمنع تلك الحرب، وأصبحت معظم الطرق مسدودة أمام عملية سلام شاملة، أما في الحرب العالمية الثانية، فكان لكل من الأطراف المتصارعة استراتيجية تصعيدية للحرب وليس للسلم، كالمواجهة الألمانية والحرب الصاعقة، التي مكنت ألمانيا، في البداية، من تحقيق عمق استراتيجي، استند إلى الهجوم مقابل الدفاع الاستراتيجي من قبل القوات السوفييتية، والتي تحولت من قبل السوفييت إلى الهجوم المعاكس عام 1942 قرب موسكو، واشتدت وطأته بعد موقعة كورسك عام 1943 وانتهت تلك الحرب «غير الاستراتيجية» إلى استسلام إلمانيا واحتلال أراضيها وانهيارها.
لن نطيل، حول الاستراتيجيات السياسية والعسكرية الفاشلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لغاية اليوم، والتي أدت إلى هذه الفوضى والغموض والتشويش على شعوب العالم، وجعلت تلك الشعوب مهددة طوال الوقت، سواء من تصريحات أمراء الحرب الاستفزازية أو دعمهم المالي والعسكري لإطالة الحروب أو لصوت المدافع والدبابات في كل مكان وكذلك مهددة بالأمراض ونقص الغذاء والطاقة وغيرها، وقد وصل العالم إلى هذه المرحلة، شديدة الخطورة، والولايات المتحدة تتولى قيادة النظام العالمي الحديث ويقع عليها وبالتشاور مع القوى الدولية عبء وضع الاستراتيجيات الدولية للأمن والسلام والاستقرار والتي يمكنها إنقاذ العالم.
قد يقول قائل: لماذا لا تلق باللوم على روسيا في حربها على أوكرانيا، وعلى كوريا الشمالية في رغبتها بامتلاك أسلحة نووية؟ والحقيقة أننا نلقي باللوم على الجميع دائماً في عدم وضع استراتيجيات تضمن السلام، ولكن تاريخ هذه الأمم، بعد ذلك سوف يضع اللوم دائماً على من كان بيده عقدة الحرب والسلم، ولم يحسن حلها.

* لواء ركن طيار متقاعد