هناك ميل لدى المحللين الاستراتيجيين لقراءة التحليلات العميقة للخروج بمصطلحات فضفاضة تعيد اجترار نفسها بلا معنى في كثير من الأحيان.

المواطن العربي مشغول عن تلك «الفذلكات الاصطلاحية» بلقمة عيشه، وفي زمن ما بعد كورونا وزمن الأزمات الاقتصادية وما ظهر مؤخراً من ضائقة عالمية وشيكة بعد حرب أوكرانيا، لا يزال البعض يبحث عن أسماء ومسميات التحالفات الممكنة والتكتلات الجديدة المحتملة، لكن لم ينتبه كثيرون إلى خبر ربما ورد عادياً في الصفحات الداخلية للصحف العربية، عنوانه كان «الشراكة الصناعية التكاملية لتنمية اقتصادية مستدامة»، وهي شراكة تحالفية واقعية وقريبة من الأرض وملامسة لهموم ومعيشة العبد لله المواطن العربي في ثلاث دول «الإمارات، مصر والأردن».

بكل بساطة، ما حدث أنه توافق الأردن والإمارات ومصر، على زراعة القمح والشعير والذرة ضمن مشاريع مشتركة تخص الأمن الغذائي بين الدول الثلاث، وسط تذبذب حاد في سلاسل إمدادات الحبوب عالمياً بسبب الأزمة الأوكرانية.

هكذا ببساطة، وبدون قراءات استراتيجية وعروض «باور بوينت» وخرائط وتحليلات وتوقعات وحسابات من «مصالح» مباشرة وغير مباشرة، كان الحل عملياً وتوافقياً لمواجهة أزمة وشيكة الحدوث وكارثية على مستوى الأمن الغذائي.

وحسب الخبر الوارد، فإن الشراكة الصناعية الجديدة ستركز على قطاعات الزراعة والتكنولوجيا المتقدمة وتوظيف الموارد والقدرات وتعزيز الشراكات الدولية والإقليمية. سأقف عند عبارة تعزيز الشراكات الدولية والإقليمية، وهي عبارة مهمة في متن الخبر توحي بمشروع توسع لتحالف يقف مع الإنسان نفسه، حاجاته المعيشية وتوظيف واستثمار المال لأجل تلك الغاية. نحن أمام تحالف حقيقي أتمنى بصدق أن ينمو ويكبر ضمن أسس تكاملية بعيدة عن التجاذبات السياسية التي أرهقت عالمنا الواسع، وإقليمنا المقهور بالتحالفات والتجاذبات طوال عقود.

هي دعوة مفتوحة بلا شك في الخبر لكل دول الإقليم، والعالم أيضاً، مردها الأساس إدراك عميق أن العالم الذي نعيش فيه هو عالم واحد، والنزاعات والحروب التي لا يزال البعض يسعى إليها لم تعد مجدية في ظلال كوارث فادحة ألمت بالبشرية خلال الأعوام الماضية، كان الدرس الأول فيها أن الكارثة لا تميز بين الدول والتحالفات السياسية.

في الخبر أيضاً، يرد ما مفاده أن الدول الثلاث ستعمل على تطوير صناعات تنافسية ذات مستوى عالمي، وتحقيق سلاسل توريد مضمونة ومرنة، وكذلك تحقيق نمو قائم على الاستدامة، وتعزيز تكامل سلاسل القيمة والتجارة بين الدول الثلاث. هذا يعني أننا أمام هيئة تأسيس لتحالف له طموحاته التي ترى أن الوقوف عند نقطة واحدة هو حالة جمود غير مطلوبة.

نحن أمام شراكة تكاملية خالية من العقد، قادرة على أن توظف قدرات تلك الدول كل بما يستطيع تقديمه لتحقيق أمن غذائي وطموح لتحقيق أمن صناعي أيضاً، وهذا يعني معيشة أفضل لسكان تلك الدول.

وزير الصناعة الأردني كشف النقاب عن بدء مشروع صناعي متعلق بالأمن الغذائي فعلاً، آثار نجاحه ستكون مباشرة وفورية لو تحقق، وتحدث عن هناك مشروع آخر مهم، يتمثل في استيراد الأمونيا من مصر والغاز من الإمارات لإنتاج أسمدة من شركة الفوسفات والبوتاس الأردنية، ويتم بيعها لهذه الدول، والفائض منه سيتم بيعه إلى الدول الأخرى. هذا باعتقادي هو شكل التحالفات الأكثر واقعية في زمن قادم.

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.