«أول وصية من السماء هي (اقرأ). واليوم نطلق صرحاً ثقافياً وفكرياً لأجيالنا لتنفيذ هذه الوصية».. هكذا، وجّه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، حديثه لجمهور المعرفة في دبي ودولة الإمارات عند تدشين المكتبة التي تحمل اسمه قبل أيام قليلة. هكذا بكل بساطة، التزام بالوصية الأولى والذهاب لما هو أبعد: دعوة الناس للقراءة من خلال توفير المنصات اللازمة لذلك.
وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ليس جديداً على عالم القراءة، وليس جديداً على عوالم المعرفة، فهو على المستوى الشخصي مؤلف لكتب واسعة الانتشار. وعلى الجانب المؤسساتي، له مبادراته الكبيرة والعظيمة التي ظلت خلال العقود الماضية، وما زالت حتى اليوم تساعد الجماهير العربية على الارتباط بـ«مادة الكتاب» وتشجعهم على الانخراط في تثقيف أنفسهم لخدمة مجتمعاتهم وأوطانهم، وبالتالي فليس غريباً عليه أن يزرع في حديقة دبي هذه الشجرة الوارفة التي تحتوي على مصادر المعرفة على اختلاف تنويعاتها وأشكالها (1.1 مليون كتاب ورقي ورقمي باللغات العربية والأجنبية، وما يزيد على 6 ملايين رسالة علمية، ونحو 73 ألف مقطوعة موسيقية، و57 ألف فيديو، ونحو 13 ألف مقالة، وأكثر من 5 آلاف دورية ورقية وإلكترونية تاريخية، ونحو 35 ألف صحيفة ورقية وإلكترونية من مختلف أنحاء العالم، وما يقارب 500 من المقتنيات النادرة). كنز عظيم وثروة لا متناهية سينهل منها كل من يسكن في أرض الإمارات بما يتناسب مع مرجعياته العلمية وثقافته وحدود وعيه ودرجة ذكائه.
كانت القراءة منذ فجر التاريخ وحتى اليوم هي فاتحة المعرفة، وأول السبل للترقي والتطور. من يقرأ بوعي واستنارة يسهم في تطوير نفسه ومجتمعه وأمته، ويفتح مسالك مغلقة، ويطأ أراضي جديدة. ومن لا يقرأ يبقى أسيراً لمورثاته القريبة والبعيدة، ويظل يدور في مكانه، مستظلاً بهامش الزمن! كانت القراءة وما زالت هي الخطوة الأولى على طريق معرفة الإنسان لنفسه ومحيطه، وكانت دائماً تحتاج لمبادرات من رجال استثنائيين يصنعون الفارق، ويذهبون لما هو أبعد كما أسلفت: يدعون الناس للقراءة من خلال توفير المنصات اللازمة لذلك. وهكذا كانت مدينة القراءة دبي، وهكذا دائماً يكون الممكن محمد بن راشد.
إنما، ولأني أطمح في أن تكون المكتبات الخليجية والعربية منارات للمعرفة على مستوى العالم كله، وليس فقط مشاعل ضوء في الأماكن التي توجد فيها، فإنّي أتمنى من القائمين على المكتبة أن يشتغلوا على جعلها «منطقة مصب» للأبحاث العلمية المتميزة على مستوى العالم من خلال عقد الاتفاقيات البينية مع الجامعات العالمية المرموقة ومراكز الأبحاث العلمية المتطورة، لتزويد خزائن المكتبة بالأبحاث الجديدة، التي تتم في دوائر هذه الجامعات وهذه المراكز، بحيث يتمكن العلماء والباحثون من مختلف دول العالم من «التشارك المعرفي» والوصول لآخر ما تم التوصل إليه في مجال أبحاثهم تحت سقف واحد.
كانت المكتبات في ما مضى مكاناً لرص «الكتب التي تتحدث عن ماضي الأشياء»، أو ما يمكن أن اُسميه «المعرفة المستقرة»، وأظن أننا نحتاج إلى إضافة مفهوم جديد لها، بحيث تكون مكاناً صالحاً لرص مستخلصات «المعرفة المستقرة»، وفي الوقت نفسه بيئة مناسبة لمراكمة الأبحاث العلمية المستمرة، أو ما يمكن أن اُسميه «محاولات الوصول للمعرفة».
* كاتب سعودي