يمكن للعقلاء أن يستوعبوا الصراع القديم المتجذر بين الشيوعية والرأسمالية منذ صرّح الرئيس الروسي فلاديمير لينين، في أعقاب الحرب العالمية الأولى «إن الاتحاد السوفييتي أحيط بالتطويق الرأسمالي المعادي»، ثم يعلن جوزيف ستالين «إنه ينظر إلى السياسة الدولية كعالم ثنائي القطب فيه الاتحاد السوفييتي الذي من شأنه جذب الدول المنجذبة إلى الدول الاشتراكية والقوى الغربية التي من شأنها جذب الدول المنجذبة نحو الرأسمالية»، ويمكنهم أيضا أن يقبلوا بهذا الصراع مع أن روسيا كانت إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا النازية، لكن «ستالين» كان متشككاً من أن أميركا وبريطانيا يلقون على كاهل روسيا العبء الأكبر في الحرب لتشكيل جبهة ثانية قادرة على عمل تسوية سلمية للحرب العالمية الثانية والسيطرة على أوروبا لاحقاً، والذي أشعل صراعاً محموماً وعداء لم يتوقف لغاية اليوم بين روسيا وأميركا.

خلال ترسيم حدود القطبين، سعت موسكو بجدية إلى ضمان الأمن السوفييتي في النظام الجديد في أوروبا، وعدم قيام أي حكومة معادية على حدود الاتحاد السوفييتي الغربية. وانجذب السياسون وعلماء السياسة في أوروبا وأميركا لتهويل الصراع بين الشيوعية والرأسمالية حتى بعد وفاة ستالين نفسه، وحتى بعد وفاة النائب «الجمهوري» الأميركي الشهير جوزيف مكارثي، نهاية خمسينيات القرن الماضي، الذي أجج الصراع في الولايات المتحدة مدعياً وجود عدد كبير من الشيوعيين والجواسيس السوفييت والمتعاطفين معهم داخل الحكومة الفيدرالية الأميركية، ولكن العقلاء، لم يستوعبوا كيف تنهار الشيوعية ويتفكك الاتحاد السوفييتي، ويُهدم جدار برلين، وما زال الصراع اليوم، كأنه بدأ بالأمس فقط!

الجواب الأبرز، هو دولة الناتو المتحدة الخفية، التي أنشاها الأميركان، خلال انشغال العالم وروسيا في ما يسمى جزافاً بالحرب الباردة، وإشغالهم بـ (لعبة السلم والحيّة) من خلال التصريح بضرورة مواجهة حلف وارسو (الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية عام 1955) بعد انضمام ألمانيا الغربية إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فكبرت دولة الناتو، وأصبحت تضم ولايات كبرى مثل فرنسا والمملكة المتحدة إلى جانب أميركا، وهذه الولايات (الدول)، تتمتع أيضا بـ (حق الفيتو) كونها أعضاء دائمين في مجلس الأمن الدولي! ثم أصبحت «دولة الناتو» تضم أكثر من ثلاثين دولة أخرى، فتساءل العقلاء: ولماذا أُنشئت الأمم المتحدة و«دولة الناتو» تسيطر على العالم؟

وجهة نظري أن الأوروبيين قد أخطأوا خطأ فادحاً بالانحراف للمشاركة في «دولة الناتو»، بعد الحرب العالمية الثانية، وكان عليهم، خلال الفترة 1945- 1955 بناء علاقة شراكة استراتيجية سياسية اقتصادية مع الاتحاد السوفييتي، نظراً لأن معظم أحزابهم السياسية آنذاك كانت تقوم على الفكر الاشتراكي والشيوعي، وما زالت لغاية الآن، وكان ذلك يتطابق مع واقع «الجيوبوليتكس» من كافة النواحي، وما زال يتطابق جغرافيا لغاية الآن، فكيف يُحارب الاشتراكي الأوروبي اليوم، إلى جانب الرأسمالي الإقطاعي الأميركي في حربه ضد الشيوعية أو الاشتراكية الروسية؟

عقلية ذكية واعية كالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الحريص على حماية وصيانة الاتحاد الأوروبي ومستقبله، يمكنه أن يتحدث إلى قادة الناتو خلال اجتماعهم في مدريد يومي 29 و30 يونيو 2022، لكتابة مفهوم استراتيجي جديد للناتو بديل للمفهوم الاستراتيجي الذي وضع في لشبونة عام 2010، ويسأل الولايات المتحدة: أين تتجه «دولة الناتو» بنا وبالعالم أجمع؟ دعونا نتفاهم مع الروس بطريقتنا ودبلوماسيتنا واذهبوا أنتم لوحدكم لمقارعة الصين كما تشاؤون!

فالمتضرر الأكبر من الحرب الحالية هو الاتحاد الأوروبي وسيكون المتضرر الأكبر أيضاً لو وقعت حرب عالمية ثالثة، خاصة في ظل انسحاب بريطانيا من أوروبا الموحدة.

يبدو هذا معقولاً من دول بحجم فرنسا وألمانيا ومن بقي لديهم أحزاب اشتراكية وعمالية تقوم في الأساس على نظريات كارل ماركس في أوروبا، الجغرافيا والأيدويولوجيا والعلاقات الاقتصادية العميقة بين روسيا وأوروبا تقول ذلك بوضوح شديد، وهذا ما أجمع عليه أعضاء «الناتو» في لشبونة 2010، إنشاء وتطوير علاقات مع روسيا قائمة على روح الشراكة، وما قامت عليه اتفاقيات وصفقات نهاية الحربين الأولى والثانية من ضمان لأمن وحدود روسيا والعيش والتعايش المشترك.

على قادة العالم أن ينتبهوا لـ «دولة الناتو المتحدة»، التي يتداخل عملها مع عمل الأمم المتحدة وعمل الاتحاد الأوروبي وعمل كل جهات وهيئات السلام والأمن في العالم أجمع، والذي بدوره يمنع اقناع روسيا بالتراجع وإحلال السلام في أوكرانيا، واستمرار حرب الشيوعية والرأسمالية، التي انتهت منذ زمن بعيد..!

* لواء ركن طيار متقاعد