يقال إن النكتة (أي نكتة في العموم)، هي انعكاس لواقع مبكي، وكلما زادت كمية الضحك في النكتة كانت المفارقة فيها واسعة أمام الواقع، والنكتة السياسية خصوصا كانت دوما تعبيرا «ذكيا» عن الرفض والاحتجاج ونوع من أنواع الوعي المُقنّع. لكن، هل يحتاج الوعي إلى أقنعة ليعبر عن ذاته؟

وما نفع السخرية في واقع أصبح أكثر تهريجاً من النكتة نفسها في العالم العربي، وأدوات أنظمة هذا العالم في الإعلام بكل أشكاله ليست إلا سكتشات كوميدية مفرطة الفانتازيا، حتى أن نشرة الأخبار أحيانا في بعض المحطات العربية يمكن تصنيفها ضمن صناعة الترفيه بلا أدنى تردد؟!

في زمن ما قبل الفضائيات، وثورة تكنولوجيا المعلومات وصناعة اليوتيوب التي تحولت إلى ظاهرة خرافية، كانت الكتابة الساخرة في الصحافة والأدب والمسرح والسينما والتلفزيون نافذة للتنفيس غالبا والاحتجاج الضمني أحيانا. لم تكن أدوات الكتابة مدعومة بتقنيات الغرافيك والصورة والمؤثرات البصرية، ولا بأرشيف صوتي أو بصري سهل التناول، كانت الكتابة الساخرة حفرا شاقا في صخر الواقع للخروج بمفارقات مضحكة ومبكية بنفس الوقت، كانت مضحكة لأن الواقع كان مبالغا في قسوة جديته.

كان محمد الماغوط، مثلا، أديبا ساخرا، سخرية غير مضحكة لكنها قادرة على اجتراح التهكمية من طغيان السلطة، وكذلك كان زكريا تامر في قصة النمر في يومه العاشر يكثف الرمزية بالصورة المتخيلة لهذا النمر البائس وكان محمد طملية في الأردن وبعبثية واقعية حد الوجع، قادرا أن يرسم الابتسامة بين سطوره مع هزة رأس متأسفة على الواقع، إن ضحكت على النكتة أو «الإفيه» الساخر حينها فأنت مدرك لبؤس المعنى فيها.

التلفزيون، كان أداة نقل للمسرح والسينما، وظهرت فكرة الكباريه السياسي التي كان من ضمن نجومها دريد لحام، وقد اعتاش واقتات على إبداعات نهاد قلعي في النقد الاجتماعي ثم أدار له ظهره ليقتات بعدها على عبقرية الماغوط. اليوم، صار الأدب الساخر التقليدي بكل عباقرته في ذلك الزمن، مجرد كتب في متحف، لا أحد يضحك لمفارقاتها، ولا أحد يجد النكتة الذكية فيها مرسومة على واقعه الحالي.

فالواقع أصبح نفسه نكتة ساخرة جدا، ومتسعة في مفارقاتها اللامتناهية، حتى أن التقاط المفارقة الساخرة صار يمكن تصيده في مشهد مفرط الجدية. سيد الأدب الساخر بالنسبة لي هو التركي الراحل «عزيز نيسين»، الذي انتقد السلطة في تركيا طوال عمره بقصص لامست هموم الأتراك، وبحكم التقارب الجغرافي وبقايا «الأثر العثماني» في بلاد الشام، كانت سخريته مفهومة في المشرق العربي، حتى إن الفنان الكبير ياسر العظمة وظّف قصص عزيز نيسين في سلسلته الشهيرة «مرايا» طوال مواسمها العديدة. النكتة عموما وبكل مستوياتها وأنواعها تعكس الواقع حولها، ولعل المثال الأكبر كان في النكتة الشهيرة عن الديكتاتور الإسباني فرانكو الذي تقول النكتة فيه إنه كان على فراش الموت يسمع صياح الجماهير خارج نافذته، فسأل من حوله عن ذلك فقالوا له:إنها الجماهير، جاءت تودعك. فرد فرانكو: لماذا؟ إلى أين هم ذاهبون؟

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.