العالم بعد الحرب الروسية في أوكرانيا لن يكون كما كان قبلها. وإذا كان انهيار جدار برلين مثّل الانطلاقة الأكبر للعولمة، حيث كانت القضايا السياسية الشائكة دائماً على الهامش، دون أن تؤثر على مصدر الأوكسجين الرئيس لنمو الاقتصاد العالمي، فإن تداعيات حرب أوكرانيا وما يرافقها من عقوبات تتصاعد ضد روسيا، وما تحمله من تبعات «جيوسياسية»، بدأت تضرب المفاصل السياسية للعولمة الاقتصادية، وتجعل القضايا «الجيوسياسية» في صلب قرارات المستثمرين.

لذا بدأت جهود الشركات تتركز على نقل الأعمال إلى المراكز والتخلي عن تعاقدات الأطراف، وهو الاتجاه العكسي للعولمة. لقد فرضت حربُ أوكرانيا تداعياتٍ سلبيةً عدة، على الاقتصاد العالمي، وأربكته بشكل غير مسبوق، وأضعفت ثقةَ المستثمرين والمستهلكين، وذلك وسط ارتفاع تكاليف المعيشة حول العالم.

ويتوقع أن تتفاقم أكثر فأكثر، مع احتمال طول فترة الحرب وتَوسُّع نطاقها، وتشديد العقوبات على موسكو، وقيام هذه الأخيرة بعقوبات مضادة على الغرب، خصوصاً بعدما وصف الرئيس فلاديمير بوتين هذه العقوبات بأنها بمثابة «إعلان حرب اقتصادية»، مؤكداً بأن بلاده لن تحيط نفسها بـ«ستار حديدي» مثلما فعل الاتحاد السوفييتي، الذي انهار في أكبر كارثة «جيوسياسية» في القرن العشرين، وأن الاقتصاد الروسي لن ينعزل عن العالم.

مع العلم أنه منذ بداية مارس الماضي، تم تصنيفُ البحر الأسود منطقةً عاليةَ المخاطر، حتى أن العقوبات الغربية دفعت وكالات التصنيف الائتماني الرئيسية في الولايات المتحدة وأوروبا (ستاندرد أندبورزغلوبال، فيتش، وموديز) إلى وقف عملياتها في روسيا وسحب تصنيفاتها لديون البلاد السيادية وللشركات. وتنوي وكالة موديز إغلاق مكتبها في موسكو نهاية الشهر الحالي، متجاوزةً بذلك توقعات سابقة كانت ترجح أن تكون السوق الروسية سوقاً مربحةً لوكالات التصنيف.

وإذا كانت العولمة قد وفَّرت على مدى السنوات الماضية سلسلةَ مؤشراتٍ إيجابية، برزت في تعزيز قوى التكامل الإنتاجية، وتوسيع نطاق التجارة والسلع والخدمات، حيث تضاعف حجم الاقتصاد العالمي ثلاث مرات، وتم انتشال 1.3 مليار إنسان من براثن الفقر المدقع، وأسهمت في تراكم الثروات بعشرات الأضعاف، فهي في الوقت نفسه وسَّعت الهوةَ بين الأثرياء والفقراء. لكن يبدو أن تأثير انتهاء العولمة سيكون أوسع نطاقاً وسيطال الاقتصاد بكامله.

وفي إطار الخسائر التي تلاحق الاقتصاد العالمي جرّاء الأزمات «الجيوسياسية» التي انتقلت إلى جميع الأسواق، سجلت ثروات أغنى 10 أثرياء في العالَم خسائر بلغت 330 مليار دولار لتتراجع قيمتها من 1515 مليار دولار إلى 1185 مليار دولار.

أما الأثرياء الروس فقد بدأت خسائرهم تتراكم قبل الحرب، نتيجة العقوبات التي فرضت علي روسيا منذ ضمها جزيرةَ القرم، إذ بلغت خسائرهم 90 مليار دولار، وفق تقديرات مجلة «فوربس». وتشهد روسيا في الوقت الحالي هجرةً للأثرياء، وتتوقع بيانات الهجرة لشركة «هينلي أند بارتنر»، ومقرها لندن، أن يهاجر هذا العام 15% من الروس الذين لديهم أصول جاهزة تزيد على مليون دولار.

وفي سياق تتبع اتجاهات هجرة الثروات الخاصة تتوقع «هينلي» أن تتفوق دولة الإمارات العربية المتحدة، كوجهة استثمارية أولى للمليارديرات المهاجرين، وأن تجذب أكبر تدفقات صافية في العام الحالي، بعدما فقدت المملكة المتحدة مركزها، بينما أخذت الولايات المتحدة تفقد بسرعة جاذبيتَها كمغناطيس للأثرياء في العالم.