ننظر في «أخبار القضاة» للقاضي محمد بن خلف وكيع(ت: 306هج)، لنرى خطورة المنصب ورفضه مِن قِبل مَن يخشى عدم العدل. ادعى أحدهم الجنون راكباً قصبةً يتبعه الصّبيان، وآخر تمارض بالفالج (الشَّلل)، وآخر بالعمى، ومَن فضلَ الحبس مع اللُّصوص، وآخر ضُرب أسواطاً. قال مكحول(ت: 112هج): «لأن أُقدم فتُضرب عُنقي أحبُّ إليّ مِن أنْ أليَ القضاء».

أما الفضيل بن عياض(ت: 187هج) فله: «إذا ولي الرّجلُ القضاء فليجعل للقضاء يوماً وللبكاء يوماً»، وقيل: «مَن جُعل على القضاء فقد ذُبح بسكين». كيف لا، و«الحُكم بين النَّاس أرفع الأشياء وأجلها خطراً»(أخبار القضاة). وبلا حرج: «المُلك يبقى مع الكفرِ ولا يبقى مع الظُّلمِ»(الغزاليّ، نصيحة الملوك). إنَّه منصبٌ اقترن بالبلوى: «إذا ابتلي أحدكم بالقضاء...».

لو أدرك وكيع القاضي حميد الحكيم(ت: 1995)، لذكره مع مَن ذَكر، عندما عُرضت عليه رشوة، خرج سارداً ثوبه وهو يصرخ في الشَّارع(سمعتها منه، وشهد بها زميله عند تأبينه). كان ذلك في السَّبعينيات، وله مواقف عنيدة مع خال صدام ووالد زوجته، رافضاً التأثير على أحكامه.

بعد (2003) عُين على رئاسة القضاء العِراقيّ قاضياً مهدداً بالاجتثاث، فهو مِن قضاة النِّظام السَّابق المتقدمين، لذا ظل مطيعاً لما أراده «الدَّعوة»، الذي حلّ محل «البعث»، ولم يخرج مِن سلوكه، بل زاد ممارسة الذَّوبان بولي أجنبي. منها بدأ القضاء يُشرعن للبلاء، فقد ظهر أحد القضاة، في الانتخابات يُقدم رشوة عبر الشَّاشات، وهو مِمن عُرفوا تعسفاً بـ«دولة القانون».

أخذ الفساد يتفاقم، ونهبت الدولة، والاغتيالات فيها الأدلة، وسقط ثلث العراق، والقضاء صامت. كم مِن دعوى لتهمة مختلقة ضد مِن لم يسايروا أمين الدَّعوة، ثم أٌسقطت عن بعضهم، لأنه تصالح معهم، وقد ذكرها صاحب «ما ننطيها» بتبرير عجيب.

غلس القضاء عن الكبائر، لكنه انتفض ضد مقدم برنامج يحاول خرق جدار الظَّلام بكوة تنوير، وطارد مَن يرون زملاءهم يُغتالون على الكلمة، وصور المسؤولين عن المقاتل تقهر ذوي الضَّحايا. تحمل العراقيون عواصف الفساد، حتى ضاع ثلث العِراق، واغتصبت نساؤه، ونهبت حدوده! وكان المشهد فظيعاً، عندما ظهر رئيس السُّلطة القضائية محاطاً بقادة الميليشيات مِن «التوابين»، ومؤسسي فُرق الاغتيالات، حماية له مِن التَّظاهرات التي طالبت بنزاهة القضاء، عندها فهمنا أنَّ القضاء تحت إرادة السّلاح.

عودة على بدئه، القضاء وظيفة عالية الأسوار، فالعراقيون يسمون القاضي حاكماً. ليس بين مَن تولى زعامة القضاء، بعد(2003)، مَن له نزاهة مَن فضل الجنون، والشَّلل، والعمى على تولي منصباً لا يعطيه حقّه، وليس بينهم مَن يخرج سارداً ثوبه لفداحة الرَّشوة.

دون نسيان الأشراف مِن القضاة مَن طارده زملاؤه بتهم كيدية، ومَن اغتيل واختطف، ومَن هُدد بقتل ولده مِن قبل حواشي القاعدة بالموصل، وأمضى الحكم وقُتل ولده! أرى توبة الفضيل بن عياض مِن قطع الطَّريق(ابن قُدامة، التَّوابون)، ثم يرفض القضاء، معروضة على مَن أفسد ونهب، فهل يقدرون عليها، وهم مقادون مِن قِبل كتائب الاغتيالات وتوابي معسكرات الأسر؟! لكنّ القومَ أصابوا الأموال والمناصب، فاستبدلوا (قدسية) القتلة والعابثين بقدسية القضاء، وهماً أنهم بخراب العِراق يبنون مجداً.

يُذكر لخالد بن صفوان(ت: 121هج): «قد انطقت الدَّراهم بعد عيٍّ/ أُناساً طالما كانوا سكوتاً/ فما عادوا على جارٍ بخيرٍ/ ولا رفعوا لمكرمة بيوتاً»(سبط ابن الجوزي، مرآة الزَّمان). قطعاً، إذا فسد القضاء حلَّ البلاء!

* كاتب عراقي