الخروج على الآداب العامة جريمة. هكذا ينصّ القانون في نصف سطر. ولو شاء القانون وضع حدودٍ للآداب يُعاقَب مَن يتجاوزها، لضرب لنا أمثلةً في مجلدات، وإنما الذي يبيّن الحدودَ هو القاضي أثناء نظره واقعةً مشتبهاً في تخطيها للآداب. وينصّ القانون على عدم جواز التعاقد على معصية.

ولا نعرف ماهيةَ المعصية الممنوعة قانوناً إلا من أحكام القضاة، فرغم أنّ المعصيةَ شأنٌ ديني، فالقاضي هو الذي يحدّدها، ما دمنا نبحث في التعاملات بين الناس والتعاقدات في السوق.

وينصّ القانون في سطر واحد على أنّ للخاطب استردادَ ما أهداه إن كان الطرف الآخرُ قد عَدَلَ عن الخطبة بغير سبب مشروع، ولا يقول لنا متى يكون السبب مشروعاً ومتى لا يكون، وإنما القضاء يقول ذلك حين يفصل في دعوى استرداد هدايا بين خاطبين.

وهذا لا يعني أنّ القاضي يضع رأيَه في مقابل النصّ، فهو لا يجوز له الانحراف عن العبارة الواضحة للقانون بالتفسير والتأويل والقياس، وإنما الكلام في النصّ الذي يترك بنفسه أمرَ تحديد حدوده ورسمَ معالمه للقاضي الذي يجتهد فيه مفسّراً مدلولَه على هدي ما يستخلص من قصد المشرِّع. ولا يُعدّ هذا افتئاتاً من السُلطة القضائية على حق السُلطة التشريعية في سنّ القوانين، وإنما هو من طبيعة دور الأولى؛ فالقضاة يسكبون على القوانين من أرواحهم أثناء التطبيق، ما دام القانونُ فوّضَهم عمليةَ تفصيله بما يناسب الوقائعَ المعروضةَ أمامهم، إذ القانون ليس نشرة تشغيل ماكينة، وإنما هو نصٌّ بشري بيد بشرٍ يُطبَّق على بشر.

وإذا كان القانونُ هو الذي يحكم الأفرادَ، والقاضي هو الذي يضعه موضعَ التطبيق، وفي الأثناء يبيّنه ويفسّره، فإننا بإزاء دور كبير للقضاة في رسم الطريق أمام الأفراد نحو العيش القويم، لا كأنهم أساتذة على الناس، وإنما باعتبارهم المعبّرين عن ضمائر الأفراد، والناطقين بالشعور العام للمجتمع، مثلهم مثل نوّاب البرلمان الذين يمثلون تطلّعات الشعب وليس آمالهم الشخصية.

دورُ القضاة كبيرٌ في النظام القضائي اللاتيني، كما في الدول العربية، لكنه دورٌ غير صريح، فبينما لا يعترف هذا النظام بالاجتهاد القضائي مصدراً للقانون، فالواقع أن استقرار أحكام القضاة في اتجاه معين يجعل منها مصدراً من مصادر القانون من الناحية العملية. فتلك السوابق القضائية، رغم أنها غير ملزمة للمحاكم قانوناً، فهي تلتزم بها عملياً، والأمر أشبه ما يكون بفكرة عدم إعادة اختراع العجلة، فما دامت محكمة ما توصلت إلى تفسير أو حلٍ ما، ثم أخذت به محكمةٌ أخرى، حتى استقرّ التفسير على ذلك النحو، فلا حاجة لابتداع تفاسير أخرى لمجرد التغيير.

أما في النظام القضائي الأنجلوسكسوني، كما في إنجلترا وأميركا، فدور القاضي صريحٌ، فحكمهُ لا يقلّ عن مرتبة القانون وهو ملزِمٌ لكافة المحاكم في الوقائع المشابهة مستقبلاً باعتباره سابقةً قضائيةً. وترتيباً على هذا الدور، نجد أنّ للقضاة مقامٌ رفيعٌ جداً في ذلك النظام، مع كل ما يحيط بهذا المقام من ميزات، وكذلك التزامات.

بينما للقضاة في النظام اللاتيني مكانتُهم، لكنهم لا يضاهون نظراءَهم في النظام الأنجلوسكسوني مقاماً معترفاً به رسمياً، رغم أنّ لأحكامهم القوة نفسها تقريباً.

*كاتب إماراتي