بين الحداثة وما بعدها، يجيء وجود المشترك الذي هو بالأساس دليل على ارتباطات وتجاذبات في كل أو فرع متأثر على امتداد خط التحول الذي صنع أو دفع لوجوده. ففي الأطر والسياقات التي تتناول ما بعد الحداثة كمضمار لإمعان التفكير، لابد من الإشارة إلى أن انعكاسات الحداثة ذاتها شكّلت أرضيةً تمهيديةً لتلك التحولات على صعيد فكري وثقافي واقتصادي واجتماعي عام، سيما أن ما بعد الحداثة اشتركت مع الحداثة ذاتها في انحسار مضمارها الصوري الذي يشير بإبهامه للمجتمع الغربي بصورة تستثني سواه من المجتمعات، مما يعني أن متعلقات ما بعد الحداثة تشكّلت وفق خصوصية المجتمعات التي قدر لبذرة الحداثة أن تنمو في تربتها.

وفي سياق ذي علاقة، فإن «النتاج الخصب» للفكر الغربي لم ينبثق من العدم، بل هو مترابط بصلة عميقة مع الفكر الحداثي ومعطيات التحول آنذاك، وظروف الاختلاف في التوجه الأيديولوجي، وتأرجح موازين اعتماد النماذج والأنماط ذات الصلة بطبيعة العلاقة بين مكونات المجتمع، وتوجهات الفكر في شتى المجالات، ومستوى اعتبار الحقوق الإنسانية، والقدرة على إيجادها بصياغة سلسة واضحة.

فما تبع الحداثة وجاء بعدها يمثل جزءاً أساسياً من المحاولات الإنسانية التي سخرت طاقاتها لتجاوز المتناقض، وإثبات ضرورة الحقبة الجديدة كبناء على القديم، واستشراف لقراءات فريدة قادمة، وهو ما يمكن لمسه في مؤلف المؤرخ البريطاني بيري أندرسون، «أصول ما بعد الحداثة»، والذي يبرز التاريخ الدقيق لمصطلح الحداثة ومفهومه، ويستند لتحليل الظواهر المتعلقة به، مفضياً لإثبات أهمية «حقبة» «ما بعد الحداثة» باعتبارها إحدى الوسائل الناجعة في تحليل الثقافة المعاصرة.

وفي الانتقال لمدلولات «ما بعد الحداثة» الوجودية، فقد استرسل المفكرون والفلاسفة في تعليلها وتبيان أصولها، فوجد كل من هوستيتلير وماكدويل، على سبيل المثال، أنها «النظرة إلى العالم التي تتميز بالاعتقاد أن الحقيقة لا وجود لها في أي معنى، بل هي تُخلقُ بدلاً من اكتشافها»، ومن ذلك فقد لعبت تلك المرحلة لديهم أسهماً تضرب في عصب التحقيق المصلحي الأيديولوجي، لاسيما أن الحقيقة «أوجدتها ثقافةٌ معينةٌ ولا توجد إلا في تلك الثقافة»، ولذلك فـ«أي نظامٍ أو بيانٍ يحاول الاتصال بالحقيقة هو لعبة سلطة، ومحاولةٌ للهيمنةِ على الثقافات الأخرى».

إن «حقبة» ما بعد الحداثة لم تفرض استحداثات على معطيات الحداثة ذاتها وحسب، بل امتدت لطرح مقاربات لصيقة تميز المجتمعَ صاحبَ الحداثة وما يليها عن المجتمعات الأخرى في العالم، وولدت مفارقات في الموازين والقوى، وحتى الانطباعات العامة، كما تجاوزت مراحل كان يعتبرها الإنسانُ ذروةَ النبوغ ومنتهى الحضارة، ليجد أن هناك العديدَ من المستجدات التي تتعدى عصر الصناعة، والتفوق على المعلومة، وتكنولوجيا فوق التكنولوجيا، وثقافة أعمق وأوسع من الثقافة! وبين الحديث وما بعده، تواردت العديد من الاشتباكات المفاهيمية، لا سيما أن «ما بعد الحداثة» دلت على ما وقع بعدها من مشاريع فكرية وتوالد نظريات وثقافات متنوعة، لكن ذلك لا يتنافى ووجود «الحديث» بحد ذاته، المستمرُّ في جِدّته التابعة لتقدم الزمان وتغير المكان. وفي المشتركات بين الحداثة وما بعدها، فلا بد من التأكيد على أن ما بعد الحداثة تحمل ارتباطات بعيدة تمتد لجذور ضاربة قبل الحداثة ذاتها، كما أن التجارب الإنسانية الحقوقية، وبخاصة ذات العلاقة مع «المأمول الإنساني»، لم تخل طريقُها قَطُّ من العثرات في عصر الحداثة، لاسيما أنه اتكأ على عصا العقل بتجريد مطلق، حيث اشتركت الحداثة وما بعدها في إثبات أن كم المعرفة العريضة التي وصل إليها الإنسان لا تمثل إلا «إبرة» في كومة قش من المعارف الممكنة. وأخيراً، فقد شكلت الحروب البشرية والظروف المتقلبة في تحوير الدفة لتحوير الاتجاه نحو الطريق السوي لتعرجات خليطة بلعنة «الأيديولوجيا» و«قصور الفهم» المحيط بكل منها ونتاجات ذلك.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة