من أهم الركائز التي يحتاج إليها أصحاب القرار في أوقات الأوبئة القدرة على التنبؤ بأعداد المرضى، وذلك لتجهيز الموارد الطبية استباقيّاً لاحتواء المصابين، واتخاذ القرارات اللازمة للحد من انتشار الوباء أيضاً، لذا ظهر علم نمذجة الأوبئة، وهو علم قديم تعود جذوره إلى مطلع القرن العشرين، عندما طوَّر الطبيب البريطاني «رونالد روس» نموذجاً رياضيّاً لمرض الملاريا، بيَّن فيه ديناميكية انتقال العدوى بين البعوض والبشر، وحصل في إثره على جائزة نوبل في الطب عام 1902.

وكان المعتقَد السائد حينئذٍ هو أن استمرار وباء الملاريا حتمي ما دام البعوض يعيش في البيئة نفسها مع البشر، إلى أن بيَّن رونالد روس في نموذجه الرياضي أنه يمكن الحد من انتشار الملاريا إذا قُلّصت أعداد البعوض إلى ما هو دون الحد المشار إليه في النموذج، فكانت التجارب الميدانية داعمة لتوصياته، وبذا حقق نموذجه الرياضي نجاحاً باهراً في احتواء الملاريا آنذاك.

وكان نموذج «روس» بداية ما يُسمى «نماذج الحجرات» (Compartmental Models)، التي تُستخدَم حتى يومنا الحاضر في نمذجة الأوبئة، وفكرتها من الناحية الرياضية بسيطة جدّاً، وهي أن أي فرد في المجتمع ينتمي إلى «حجرة رياضية» تمثل حالته الصحية، ثم ينتقل إلى «الحجرة» الأخرى عندما تتغيَّر حالته، فمثلاً يبدأ النموذج باحتساب الكثافة السكانية التي تنتمي إلى حجرة «المعرَّضين للإصابة»، والحجرة التي تليها، وهي حجرة «المصابين»، وباستخدام معادلات تفاضلية (Differential Equations) تُحتسَب الأعداد المتوقعة للمنتقلين بين الحجرتين الأولى والثانية تصاعديّاً بمرور الوقت، بحيث كلما ازدادت أعداد «المصابين»، ازدادت كذلك أعداد «المعرَّضين للإصابة»، ومن ثَمّ ازدادت أعداد «المصابين» في اليوم التالي.

وتُحتسَب بالنمط نفسه أعداد المنتقلين بين حجرات أخرى تُمكِن إضافتها إلى النموذج، مثل حجرة «المتعافين»، وحجرة «المتوفين»، وغيرهما، وبهذا الأسلوب يمكن التنبؤ بأعداد المرضى والوفيات في أي يوم من الأيام المستقبلية لمدَّة الجائحة. وتظل هذه النماذج -برغم قدمها- هي الأساس في علم نمذجة الأوبئة حتى يومنا الحاضر، ولكن مَن يعمل عليها يعاني صعوبة بالغة في تغذيتها بالبيانات الدقيقة باستمرار.

وبطبيعة الحال، فإن أيَّ نموذج رياضي تعتمد دقته على دقة البيانات التي أُنشئ على أساسها، فمثلاً لا يُعَدّ إحصاء مدَّة الانتقال من حالة «التعرض للإصابة» (أو المخالطة) إلى حالة «الإصابة» أمراً سهلاً، فضلاً عن مدَّة التعافي من الإصابة وغيرها من المعطيات التي يحتاج إليها النموذج للتنبؤ بدقة.

وهذا ما لمسناه خلال عملنا في مشروع النمذجة الرياضية لديناميكيات انتشار «كوفيد-19» في بدايات الجائحة. وعلى الرغم من أن حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة تُعَدّ من أنجح الحكومات في دقة رصد أعداد المصابين بكورونا، فإن طبيعة البيانات التي يتطلَّبها النموذج وكمَّيتها مثَّلتا تحدياً كبيراً، واستوجبتا تنسيقاً وثيقاً مع جهات عدَّة تعمل في الميدان، لتلبية المستلزمات الإحصائية للنموذج، وقد شُكّل فريق بحثي مميز متعدد الاختصاصات من جامعة الإمارات العربية المتحدة ودائرة الصحة-أبوظبي، ومركز أبوظبي للصحة العامة لتلبية متطلبات هذا المشروع من الناحيتَين العلمية والعملية، ووُفّق الفريق في الوصول إلى نتائج مرضية جدّاً أسهمت في تزويد أصحاب القرار بالمعلومات الاستباقية اللازمة لاحتواء الجائحة.

وألهمَنَا جمع البيانات النظر في كيفية تطوير أسلوب نمذجة الأوبئة الذي شرحناه آنفاً، فبدأنا نفكر في إمكانية التنبؤ بأعداد المصابين بطريقة بديلة تَستخدم البيانات المتاحة لتنقّل أفراد المجتمع عبر أرجاء المدينة. وكانت الفرضية العلمية هي أنه كلما كان المجتمع أكثر ديناميكية في تنقلاته، ولا سيَّما بين الأماكن المزدحمة وبؤر الإصابات، كان المرض أسرع انتشاراً، وبهذا يكون لدينا مؤشر للتنبؤ غير المباشر بالأعداد المتوقعة للإصابات، وأداة لتوجيه وتقييم قرارات الإجراءات الاحترازية التي تحُدّ من ديناميكية التنقل غير الآمن، وتقلل انتشار المرض.

وانطلاقاً من هذا المبدأ ابتكر الفريق البحثي منهجية رياضية جديدة لنمذجة تأثير الإجراءات الاحترازية (مثل قرارات العمل عن بعد، وحظر التجول... إلخ) في معدل انتشار الوباء باستخدام خرائط التنقّل، استناداً إلى البيانات الضخمة لحركة مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي التي وفرتها للفريق شركة «فيسبوك»، وتشمل تنقلات مستخدمي تطبيقَي «واتساب» و«إنستجرام»، ولا تحتوي على معلومات تخص هُويات المستخدمين.

وبعد عدد من التجارب والمقارنات التي أجريناها تبيَّن لنا أن هذه النماذج المبنية على البيانات الضخمة للتنقل لا تقل دقةً -في كثير من الأحيان- عن النماذج التقليدية المبنية على البيانات الطبية الصعب الوصول إليها، وقد نشرنا نتائجنا البحثية في مجلة «نمذجة الأمراض المعدية»، ليُستفاد من تجربة دولة الإمارات البحثية فيما يخص علم النمذجة الرياضية للأوبئة.

والجدير بالذكر أن مثل هذه النتائج لم يكن بوسع الفريق تحقيقها إلا بمشاركة خبراء متعددي الاختصاصات، ينتمون إلى جهات بحثية وتشريعية عدَّة.

وبصفتي مهندساً في قطاع النقل والبنية التحتية، فإنني لم أكن أتوقع أن يكون لي عمل بحثي مؤثر بالتعاون مع المختصين في مجال الصحة العامة، وهنا تكمن متعة البحث العلمي في عصر البيانات الضخمة. ولعلَّ أهم الدروس المستفادة هو الخروج من أطر التخصصات والمؤسسات عند تشكيل الفِرق البحثية للوصول إلى حلول مبتكرة.

*أستاذ مشارك في كلية الهندسة، ومدير مركز الإمارات لأبحاث التنقّل في جامعة الإمارات.