يقول تعالى في محكم تنزيله: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»، وقد جلب مسار التاريخ الإنساني معه الكثير من التداعيات التي عملت على إحياء تلك النفس تارة، وتخنيق أنفاسها تارة أخرى، فهل جاءت ما بعد حداثتنا بمعاني الإحياء الحقيقي للنفس البشرية، أم أنها وقعت في فخ الهلاك؟ لقد واجهت لفظة humanization «أو الأنسنة»، العديد من الإضافات والتجاذبات المتعلقة بالدلالة، وبخاصة في الأطوار ذات العلاقة بين الإنسان ومخزونه الإيماني، التي واجهت مختلف أنواع الشعور إبان الخلاص من السطوة الدينية التي شهدها الإنسان الغربي في أوروبا، مما طرح العديد من التناقضات، فهل حداثته تتحقق بوالدية دينية، أم أنها تشترط يتماً إيمانياً، وترشيحاً عقلانياً بحتاً؟

إن تيار «الإنسانوية»، الذي عاش أبهى أطوار شبابه في عصور النهضة الأوروبية، هيمن على مختلف المجالات ذات الصلة بالفنون والأدب والثقافة وغيرها، إذ اتجه نحو سلخ الرداء الأرسطوي (نسبة لأرسطو)، والنزوع للفكر الأفلاطوني الذي يقدس الإنسان وينتزع خصوصياته من الإطار الديني، ويجعل الإنسان بذاته معياراً لكل شيء.

وربما نجحت هذه النزعة في التنبيه والالتفات للمغالطات التي تحول الحياة البشرية لتعاليم «كنسية»، في إشارة لاستغلال اسم الدين لحوز السلطة السياسية من جهة، ولكنها بالغت بعض الشيء في عدم الوجود الديني، ذي العلاقة والصلة الوثيقة مع الأساسات القيمية الأخلاقية التي تعني بالنهاية «سلوك واقعي»، فمن المطلوب والرائع أن يكون الإنسان سيد نفسه، و«سيد الطبيعة»، ولكن ذلك إذا بني على «لا أساس» ولد مجتمعات متمردة لا تأبه بالآخر، سيما أن الأديان السماوية كافةً، أسست لمبادئ وأخلاقيات تضمن سلامة العلاقة مع الآخر، بحيث تقترب من الواقع المتجه نحو التعاون والتشارك وصون الكرامة الإنسانية وحقوقها.

 ومن هنا فقد شكلت حقبة ما بعد الحداثة، ملامح واضحة ومفترق طرق بارزاً بين موت الإنسان، وإعادة إنعاشه الفكري الواقعي، فهناك فارق كبير بين اعتبار الوجود الإنساني أنطولوجيا جوهرية، وبين ربط حداثته بانتزاع أساسه ومبادئه، وفيما جلبت الفلسفات من نزعة مادية علمية الكثير لتوضيح ذلك، ففي حين تم اختزال الإنسان في البيولوجيا في الفلسفة الداروينية (نسبة إلى داروين)، تم إقصاء كافة الأبعاد الإنسانية، وتوجه الإنسان لحصر المساحة الحقيقية بينه وبين الحيوان، بينما كانت الحاجة الحقيقية لنهضته وحداثته أولى أن تصب في مساحات أكثر خصباً ليجني منها مكاسب نافعة.

ولا يمكن سلب أي جهود علمية قيمتها، أو الإقرار بعدم وجودها، طالما هي تحمل بين طياتها وجهاً آخر وتفتح للإنسان مسارات جديدة، وهذا ما حصل – مثلاً – عندما حاول الإنسان عدم الدين تارة، وعدم العقل تارةً أخرى، ليصل لإلزامية انسجامية ذات قناعة وإدراك، لا جمود في التناول مفضياً للرفض أو الفشل في التجربة الإنسانية، ففي علم النفس الدارس لمعطيات العقل البشري حول «الوعي والإرادة» الإنسانية، يقول كرين برينتون في محاولته فهم تشكيل العقل الحديث، إن مساهمة فرويد في مجال نزعه معاداة العقل المعاصر شكل إسهاماً عظيماً للغاية.

وإن «أعماله بالإضافة إلى أعمال بافلوف وكثيرين غيرهما من علماء النفس وعلماء وظائف الأعضاء. تؤكد تأكيداً شديداً على اتساق الأفعال البشرية التي لا تشارك فيها أبداً، أو تشارك فيها بقدر ضئيل أداة الفكر التقليدية - العقل عند أرسطو والقياس المسيحي والعقل عند «لوك» والموسوعيين، بل وحاسة الاستنتاج عند نيومان.

وأصبح العقل في نظر أعداء التفكير العقلي نتاج الاستجابات التلقائية سواء طبيعية أو شرطية، ونتائج كل أنواع الدوافع اللا شعورية والحوافز وليدة التقاليد والعادات الاجتماعية، بل والأسس اللاهوتية والميتافيزيقية الناجمة عن التهذيب في مرحلة باكرة من العمر.

ويرى المؤمن بنزعة العداء للعقل أن الفكر الاستدلالي الواقعي عند الفرد بالقياس إلى الجزء الباقي من حياته، يكاد يكون أقل من الجزء الصغير المرئي من جبل الثلج فوق سطح الماء بالقياس إلى الحجم الكلي لجبل الثلج». مما يعني أن موت الإنسان ما بعد الحداثة لا يكون إلا من خلال قصور إدراكه. فالبشرية مشتركة في الكثير من الأساسات والصفات البيولوجية، والبنى الفكرية المتولدة من التفاعلات الناتجة بناء على عناصرها ومراحل تطورها. فالمشترك الإنساني المؤدي لإحياء البشرية، يتلاقى والإقرار بضرورة الاختلافات وحتمية التنوع والثبات على الأخلاق.

د. محمد البشاري

أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة