تخلو المحكمة من قضايا «اللا رؤية»، أما قضايا «الرؤية» فتعجّ بها أروقتُها. و«الرؤية» من لواحق الحضانة، فعند الانفصال تستحق الأمُّ حضانةَ الطفل ويستحق الأبُ زيارتَه، وقد تنعكس الأدوارُ أحياناً. و«الرؤية» حقٌ مهمٌ إلى درجة جواز تدخّل الشرطة فيه، ويمكن أن يخسر الحاضنُ حضانتَه للطفل لو تكرّر امتناعه عن إتاحة المجال للآخر لرؤيته.

ورغم أنّ «الرؤية» كثيراً ما تكون سبباً للنزاع، فثمة حالات لا تسبّب أي صداع، وذلك حين يلقي صاحبُ الحق في «الرؤية» الماضي وراءَ ظهره، فلا يستعمل حقَّه في «الرؤية»، والقانون لا يجبر أحداً على استعمال حقه. لكن هل «الرؤية» حقه وحده، يتصرّف به كيفما شاء؟

وفقاً لقانون الأحوال الشخصية، ووفقاً للمتعارف عليه، «الرؤية» حقٌ للوالد في مقابل حق الحضانة للوالد الآخر، والطفل خارج المعادلة.

أما في قانون حقوق الطفل، فـ«الرؤية» حق الطفل أيضاً، فهو ينصّ على حقه في التعرّف على والديه، والاحتفاظ بعلاقة شخصية واتصال مباشر معهما.

وما دامت القوانين تكمّل بعضها بعضاً، فـ«الرؤية» إذن حقٌ مشترك: للوالد في رؤية طفله، وللطفل في رؤية والده، لكن حقه هذا غير محمي بسوط الجزاء، إذ القانون لا يفرض جزاءً على والده الذي لا يؤدي إليه حقَّه، لتكون الخطوة التالية الملحّة تعديلاً في القانون يعاقبه على عدم إقامة علاقة شخصية مع طفله، أو يعاقب الوالد الآخر إذا كان هو الذي يحول دون ذلك.

وهذا العقاب أقرب إلى التوعية بحق الطفل منه إلى عقاب والده فعلاً، فقد لا ننتبه إلى عِظم الحق إلا حين يلوح أمامنا العقاب على عدم إيفائه. وعلى أي حال، عقاب الوالد الذي لا يؤدي حقوقَ طفله ليس شيئاً غريباً على التشريع. ففي القوانين ثمة جريمة بعنوان «عدم أداء النفقة مع القدرة». وقد كانت هذه «الجريمة» محل طعن دستوري في مصر، بحجة أنه لا يجوز أن يكون الابن سبباً في حبس أبيه وتعطيله عن العمل الذي ينفق منه عليه، إلى جانب أنّ حبسه -لهذا السبب- يؤدي إلى قطع الروابط الأسرية.

وقد ردّت المحكمةُ الدستورية المصرية بالقول إنّ حملَ الوالد على إيفاء النفقة التي حجبها عناداً أو إهمالاً، هو إلزامٌ بما هو لازم، والامتناع عنها ضياعٌ لمستحقها، وتجريمه ضمانٌ لوحدة الأسرة، فلا يكون أفرادُها بعضُهم لبعض خصيماً، بل عوناً ونصيراً، وامتناعه عنها هدمٌ لصلة حرّم الله قطعَها، فلا يقوم بكفاية ولده، بل يرهقه من أمره عسراً، فإذا ما حُمّل على أداء نفقته، وإن بالحبس، كان ذلك جزاءً وفاقاً.

وكل ما يقال في حق الطفل في الإنفاق، يمكن أن يقال مثلَه في حقه في «الرؤية»، فلا شيء أقسى عليه مِن أن يزهد فيه مَن هو بضعةٌ منه، لا سيما أنه يعيش مع أحد والديه، وهذا النبذ من الوالد الآخر يشرخ شخصيتَه ويدمي قلبَه إلى آخر عمره، وقد يدفع المجتمعُ غداً ثمنَ القسوة التي عاشها. ثمة حاجة إذن إلى تغيير فلسفة «الرؤية»، من حقٍ للوالد وحده، إلى حق مشترك بينه وبين طفله، ومتى ما امتنع عن أداء ما عليه، أحالته السُلطاتُ المختصة بالطفلَ إلى القضاء لعقابه عن «اللا رؤية».

*كاتب إماراتي