في دول الخليج العربي قد يستغرق العديدون من الحالة التي وصلت إليها الأوضاع في علاقات روسيا بالغرب من تردي والدخول في حرابة مستعصية من خلال الحرب في أوكرانيا ومما قد تؤدي إليه من نشوب حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها كافه أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية بما في ذلك النووية منها وقد يعود هذا الاستغراب إلى عدم الإلمام في المنطقة بالعديد من الحقائق حول روسيا ذاتها وحول تاريخ علاقات روسيا بالقارة الأوروبية.
أن عدم الإلمام بالشؤون الروسية يعود إلى النقص الشديد في الدراسات التي أجريت حتى الآن حول روسيا ودول أوروبا الشرقية والتي أجراها مواطنون من أهل المنطقة، لذلك فإن قليل من أهل المنطقة يعلمون بأن تاريخ العلاقات المتردية بين روسيا وأوروبا الغربية يعود إلى ما يزيد على ألف ومائة عام تقريباً، وهي علاقات تستبدل بنزعتين متضادتين كشفتا عن نفسيهما على مدى ذلك التاريخ الطويل.

النزعة الأولى هي الحركة الروسية باتجاه الغرب الأوروبي لكي تلتقي معه في ما يعرف الآن بمسمى (المنطقة الأوروبية المشتركة) والتي تمزقها الآن الحرب في أوكرانيا.
والنزعة الثانية كانت مفروضة بالقوة والتي تتجلى في المناداة بالابتعاد عن أوروبا الغربية والولايات المتحدة والنأي بالنفس عنهم، والتي تعبر عن نفسها في القومية الروسية وفي التطلع إلى بناء جدار سميك وخلق عالم روسي خاص يتطلع نحو سهول سيبيريا الممتدة والواسعة، وإلى النطاق المتدحرج نحو نهر الآمور وتيان شان وجبال الهندكوش، ومن ثم نحو المحيط الهادئ، وهي قوه مضادة للنزعة الأوروبية.
لقد سادت النزعة الأولى خلال فترتين مهمتين: الأولى في زمن كييف - روسيا وحكم زومانوف.
أما النزعة الثانية، فقد تولدت مبدئياً من قبل السيطرة المغولية، لكنها توقفت خلال عملية تجميع وضم الأراضي الروسية وهزيمة الحشود القبلية، أو ما يعرف ب (الحشد الذهبي) خلال القرون التي سادت فيها إمبراطورية روما الثالثة وفترة الاضطراب القومي في ما بعد فتره حكم ايفان الرهيب، وأخيراً خلال السبعين عاماً من الحقبة السوفييتية حدث تصادم بين نزعتين في ما بين العامين 1914 و1920، ولو أن روسيا كانت في الجانب المنتصر في الحرب العالمية الأولى لكانت قد سنحت لها الفرصة لكي تصبح جزءاً من أوروبا الوسطى والبحر الأبيض المتوسط، وأن تلعب دوراً رئيسياً في خلق نظام دولي سياسي يتكون من مثلث روسيا - بريطانيا - فرنسا يسيطر على التطورات في كامل قارتي أوروبا وآسيا أو (يورو - آسيا)، لكن الهزيمة اللاحقة وخسارة توازنها المركزي الداخلي أديتا إلى قيامها بتوقيع اتفاقية السلام المعروفة بـ(برسيت - ليتوفسك) مع ألمانيا منهية بذلك تحالفها مع الغرب.
إن القوة المحركة للانشقاق بين روسيا والغرب خلال القرنين السابقين، هي فقدان النخب الحاكمة في روسيا القدرة على السيطرة على الأوضاع العامة في البلاد وتحول الأمور إلى تكون ما يشبه الكتل التي تتشكل من ممثلين لمقاولات مختلفة جداً، بل ومتناقضة على الصعد الاجتماعية - التاريخية، والتي تميل إلى شخصنة المجتمع الروسي الذي أصبح أفراده ذوي نظرات متناقضة حول علاقة بلادهم بالحضارة الغربية.
ونتيجة لذلك، فإنه صار لدى الروس نزعة تميل نحو المواجهة مع الأوروبيين الغربيين عوضاً عن التعاون.
في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي جرت محاولات لدمج روسيا في النسيج الغربي، وهي عملية كان قد تم رفضها في الفترة الواقعة ما بين 1914 و1920 وظلت روسيا منعزله. وتلك العزلة التي ترسخت في زمن الاتحاد السوفييتي أثرت كثيراً على مصير ثلاثة أجيال من الروس، لكن عبر التاريخ الروسي، وحتى خلال الحقبة السوفييتية، لم يتواجد شك في وجود هوية أوروبية من نوع ما لدى روسيا.
وبشكل أساسي كانت الأنماط الماركسية والاشتراكية التي استخدمت في روسيا تعتبر أفكاراً أيديولوجية مصدرها الفكر الغربي.
وبهذا المعنى، فإن النزعة الغربية بقيت متأصلة حتى العام 1945، لكن بعد الحرب الكونية الثانية، حين حدث تحول جزئي عن المركزية البدائية، ثم الشعور بنتائج فيها حس قومي روسي خاص لدى العامة وهي قائمة إلى هذا الوقت، وهذه حقيقة أساسية، لذلك فإن التجربة التاريخية لروسيا تحتوي على لحظات فريدة من الأصالة، حتى عندما وضع القُطْرُ لنفسه هدفاً (أممياً) قائماً على التوجه نحو الغرب. والحديث صلة.
كاتب إماراتي