لم يتوقع أحد أن بلداً عربياً غنياً، كما كان حال العراق القوي بحجمه وتاريخه ودوره وتأثيره وتعدد ثرواته، والذي كان أول بلد عربي يحقق القضاء التام على الأمية.. لم يتوقع أحد أن يصبح هذا البلد مديوناً وضعيفاً، وعلى ما هو عليه اليوم من هشاشة وتبعية وضياع للهوية، بينما مئات الآلاف من أبنائه مشردين أو لاجئين في المنافي، وملايين الناس من أهله في الداخل يعانون البطالةَ والغلاءَ وتردي الخدمات وانعدامها غالباً.
في الماضي كان الجميع يستطيعون العيش في العراق؛ كلٌّ حسب قدرته واستطاعته ووضعه المالي، وذلك لوفرة خيرات البلد وكثرة أرزاقه وتنوع موارده النفطية والزراعية والمائية.. لكن بعد احتلاله في عام 2003، وما رافق ذلك وتبعه من تدميره وتمزيق، ساءت أوضاعُ العراقيين جميعاً، الغني منهم والفقير على السواء.
ينظر إلى العراق على أنه بلد يعوم فوق بحيرة من النفط، وذلك لضخامة احتياطياته من «الذهب الأسود»، لكن هذه الثروة الطائلة لم يجر استغلالُها بشكل صحيح، لاسيما في ظل الإضرابات المتكررة والاضطرابات الأمنية الدورية.
حين فكرت الولاياتُ المتحدة في غزو العراق واحتلاله، كانت الدوافع الاقتصادية والتجارية حاضرة بقوة في خططها، لذا فقد استولت على موارده ومصادر ثرواته، وبالأخص على آبار نفطه الغنية بالبترول، وبذلك وضعت يدَها على هذا المخزون الاستراتيجي طويل الأمد، ورفضت تقاسمه حتى مع البريطانيين الذين شاركوها الاحتلال لكنهم «خرجوا من المولد بلا حمص»، إذ استولى الأميركيون على «الكعكة» وحدهم بلا شريك ولا منازع. وما زالت الولايات المتحدة تشرف على آبار النفط الغنية في جنوب العراق، وتصدّر شركاتُها خامَه عبر البحر، بينما يتقاتل العراقيون على المناصب السياسية ويتنافسون على أصوات الفقراء والعاطلين عن العمل من ضحايا سياسة التجهيل وخداع الأفكار الطائفية المتطرفة لدى الأحزاب والمليشيات الاستئصالية، والتي أصبحت تتناحر مع بعضها البعض، وأغلبها أتى من خارج الحدود رافعاً شعاراته الطائفية والمذهبية الغريبة على الوطنية العراقية وعلى الانتماء للأرض.
وكان للمليشيات الطائفية هي كذلك نصيبها من سرقة «الذهب الأسود» وتهريبه إلى الخارج، ومن السكوت على ما يفعله الجيران بمياه العراق؛ فقد جفت الأنهار ومنعت عنها المياه بسبب السدود التي أقامتها دول المنابع الإقليمية، لكن ظلت هذه المليشيات تغني الأهازيج وقصائد التمجيد لمرجعياتها خارج العراق، وفي الوقت نفسه كانت تحرث الأرضَ سخطاً وصخباً لأخذ الثارات الطائفية والعشائرية الغابرة، بينما شمس العراق الحارة صيفاً تحرق العراقيين وهم بلا ماء ولا كهرباء! يحدث هذا وقادة المليشيات يتفرجون عبر شاشات التلفزة ومن شرفات فنادق الخمسة نجوم المكيفة! وفي الوقت نفسه يرفع المريدون والأتباع صور زعمائهم المعممين، مرة داخل البرلمان ومرة ثانية في مكان من المنطقة الخضراء ومرة ثالثة في الشوارع والساحات.. بينما أبناء جلدتهم تطاردهم دوريات خفر السواحل على الحدود والموانئ والطرقات في الدول الأجنبية، فارين من بطش الديمقراطية الجديدة المجلوبة من الخارج على ظهر الدبابة الغازية، حيث أصبحت الديمقراطية نظام محاصصة طائفية يفرق العراقيين ويزيد شروخ بلدهم.
وفي ظل إفرازات الغزو وتبعاته الطائفية، يجد العراق نفسه في مهب الريح أو على شفى الانهيار، وقد تحول من عراق بلد دار السلام إلى «عراك» دائم!

كاتب سعودي