اندلعت في ولاية النيل الأزرق بالسودان حرب طاحنة بين قبيلتي الهوسا والبرتا مخلفة مئات الضحايا، في الوقت الذي تجذرت المعادلة القبلية في شمال اليمن تحت حكم المليشيات الحوثية، ونتج عن عودة حركة «طالبان» للحكم في أفغانستان اشتباك قبلي متزايد. 
في العديد من البلدان التي تشهد المنافسات الانتخابية، تشكل الظاهرة القبلية محدداً أساسياً من محددات الصراع السياسي، كما هو الشأن في العراق والأردن وموريتانيا..
ومن هنا السؤال الجوهري: هل يمكن بناء دولة مدنية مستقرة وفاعلة في المجتمعات ذات التركيبة القبلية؟ لقد طرح السؤال في السياق الأفريقي، على اختلاف معنى القبيلة عن دلالته في المجتمعات العربية. القبيلة من المنظور الأفريقي هي وحدة عرقية ولغوية ودينية أحياناً، وهي في البلدان العربية وحدة انتماء عشائري في مجتمع غالباً ما يكون متجانساً دينياً ولغوياً.
منذ الستينيات لاحظ علماء الأنثروبولوجيا الأفارقة أن المفهوم الجامد والمغلق للقبيلة في أفريقيا هو أساس نتاج المقاربات الإثنوغرافية الأوروبية التي سعت بالنظر والتطبيق إلى تحويل الوحدات الانتمائية الخصوصية إلى كيانات عضوية مستقلة، وقد كانت في الأصل مجرد هويات مرنة وحركية خاضعة للتعديل المستمر والامتزاج الدائم مع الهويات الأخرى.
وهكذا عملت السياسات الاستعمارية في أفريقيا على هدم قنوات التواصل والتداخل بين الوحدات الاجتماعية الأفريقية لبناء نمط جديد من التدبير السياسي يقوم على السيادة الأحادية المطلقة.

في مقابل التجربة التاريخية للمجتمعات الأفريقية التي عرفت تشكل إمبراطوريات واسعة على أساس التعددية العرقية والدينية وفق محددات الهوية المفتوحة والسيادة متعددة الدوائر، كما هو شأن إمبراطوريات مالي والصونغاي وسوكوتو ويوروبا...
ولا شك إن أحد الأسباب الرئيسية للحروب الأهلية والصراعات الداخلية التي عرفتها الدول الأفريقية في العقود الأخيرة، يرجع إلى هذا التصور الجديد للهوية القومية المغلقة الذي انجر عنه تضييق إطار المجموعة الوطنية في إحدى مكوناتها التي أصبحت تتماهى مع الجسم السياسي في مجموعه على غرار المشهد الأوروبي.
في العالم العربي، طرحت القبيلة في الدراسات السياسية والإثنوغرافية من منظورين: إما اعتبارها حالة تاريخية من تطور المجتمعات وفق الخط الغائي الذي يقود حتماً إلى الحالة المدنية الحديثة، أو اعتبارها نمطاً خاصاً من التنظيم الاجتماعي له أدواته وآلياته الثابتة الدائمة. 
في المنظور الأول، يخلص إلى القول إن النهج القويم هو العمل على تحديث المجتمع وتطوير مؤسساته ونظمه لاجتثاث الآثار السلبية للنعرات القبيلة وتعويضها بالدولة الوطنية قبل أي إصلاح سياسي أو ممارسة ديمقراطية. وفي المنظور الثاني، لا مناص من التعامل مع خصوصية المجتمع العربي التي هي التركيبة العشائرية والنظام العصبي بما يفرض تكريس نظام ناجع للتمثيل القبلي، سواء عبر نسق أحادي أو تنافسي تعددي.
نعلم منذ ابن خلدون أن البنيات العصبية تتجاوز البناء القبلي في مفهومه النسبي الميكانيكي وتخضع لمسارات سياسية قد تفضي إلى تشكل قطب مركزي للحكم عن طريق الدعوات العقدية. ومن هنا لا حقيقة للتعارض الأصلي بين القبيلة والدولة، ولا معنى لفصل محددات السياسة عن تركيبة المجتمع في تنوع نسيجه.
وبالرجوع إلى ما ذكرنا من أحداث الصراع القبلي العنيف أو التنافس الانتخابي على أساس الاصطفاف القبلي، يمكن القول إنها تشهد راهناً منطقتنا ليس استفاقة القبيلة أو عودتها، بل إننا نعيش بوضوح فشل الدولة الوطنية وانهيارها المؤسسي والاجتماعي في كثير من بلدان الشرق الأوسط بمفهومه الموسع.
في بلدان كادت المعادلة القبلية أن تنحسر فيها (كما هو شأن بعض بلدان شمال أفريقيا)، لاحظنا انفجار الجسم الاجتماعي، وفي بلدان لا تزال التركيبة القبلية قائمة فيها استطاعت هياكل الدولة امتصاص الهويات القبلية وتجاوزها في بناء سياسي صلب(كما هو شأن بلدان الخليج العربي).
في بلدان مكتملة التجانس الإثني واللغوي، مثل الصومال، اندلعت الحرب الأهلية وفق خيوط هوياتية متعددة لا يمكن حصرها في المعطيات القبلية بمفهومها الضيق، وهي الحالة نفسها القائمة حالياً في اليمن.
وحاصل الأمر أن المقاربة القبلية غالباً ما تكون نتاج العجز التأويلي عن فهم الواقع السياسي وتفسير مأزق الدولة في علاقتها بالمجتمع. وبعبارة أخرى، لا يتعلق الأمر في الصراعات الجديدة بعودة القبيلة وإنما تشكل هويات جديدة متصادمة.
* أكاديمي موريتاني