عندما بدأت أكتب في صفحة الرأي بصحيفة «الحياة الدولية» قبل 16 عاماً (توقفت الصحيفة للأسف عن الصدور عام 2019)، كانت الورقة والقلم هما الرفيقان المفضلان لأغلب كتّاب ذلك الزمان. أتذكر أن أول مقالتين لي كتبتهما على (ورق الدشت) الذي يستخدمه الصحافيون عادة في كتابة موادهم الصحافية، وبعثتهما لمقر الجريدة في شارع التحلية الشهير بمدينة الرياض. ثالث مقالة كتبتها على الكمبيوتر المحمول وأرسلتها آنذاك عن طريق الإيميل لمسؤول صفحة الرأي في الصحيفة. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم لم أستخدم القلم والورقة في كتابة المقالة. مرة أكتبها على جهاز كمبيوتر محمول. ومرة على جهاز كمبيوتر مكتبي. ومرة على كمبيوتر لوحي. ومرات كثيرة على جهاز الهاتف الذي أحمله بين يدي.
فيما مضى كان الكاتب أو الصحافي يكتب مادته الصحافية على الورق. وكان يسلمها لمطبخ التحرير يداً بيد أو يبعثها باستخدام جهاز الفاكس «حزماً كهرومغناطيسية» تطير في الفضاء باتجاه مقر الجريدة. واليوم أظن أنه لم يبق أحد يستخدم القلم والورقة في الكتابة. تخلى الجميع تقريباً عن لحظة اختلاط الحبر بـ«متحولات الأشجار»، فتوقف التواصل الحسّي ما بين يد الكاتب وحروفه. هل أنا مثل كبار السن الذين لا عمل لهم فيما تبقى من أعمارهم سوى الحنين إلى الماضي ومقارنة إيجابياته بسلبيات حاضرهم؟ لا بالطبع. فالكتابة بالنسبة لي على شاشة الكمبيوتر أفضل بكثير من استخدام القلم والورقة. بل إن الحروف «الباينارية» التي تظهر على صفحة مقالتي في الكمبيوتر هي بالنسبة لي الكائن الأرقى الأقرب إلى نفسي في مسيرة تطور الكتابة وأدواتها.
لكن السؤال يبقى وهو ما دعاني لكتابة هذا المقال: هل ما زال تأثير الكتّاب في الرأي العام قائماً حتى اليوم؟ هل ما زالوا بالفعل قادة للرأي أم التهمتهم وسائل التواصل الاجتماعي وأنتجت بدائل لهم؟
قبل سنوات، عندما كان الحبر والقلم هو وسيلة اتصال الكاتب بصحيفته، كان الكاتب هو أحد صنّاع الرأي المهمين في مجتمعه. كان قراء الصحف الكبيرة في الوطن العربي بالملايين، وبالتالي كانت أصوات كتّاب الأعمدة وكتّاب صفحات الرأي يصل معزولاً من «أية مؤثرات خارجية» إلى مئات الآلاف من القراء الذين يتصلون بالعالم وأخباره عبر وسائل الاتصال الجماهيري المتمثلة في الصحف والإذاعة والتلفزيون فقط. كان الكاتب وجهاً معروفاً للجماهير، وكان قلمه وصفحته البيضاء قادرين على صناعة ودعم رأي عام معين من خلال المقال اليومي أو الأسبوعي.
أما في زمننا هذا، فقد تراجعت مقروئية الصحف بسبب هجوم منصات الإعلام الجديد على الأجيال الجديدة، ما أدى إلى محدودية تماس ما يكتبه كاتب الرأي في أية صحيفة مع اهتمامات ومتابعات قارئ اليوم. كان الكاتب فيما مضى يكتب للجماهير، وأصبح اليوم يكتب لنخبة النخبة.
ما الحل؟ تُعيد الصحف إنتاج مقالات كتّابها الجيدين في إنفوغرافات أو فيديوهات أو كتابات مصغرة بالاتفاق معهم وتعيد بثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هكذا تحمي الصحف وجودها في فضاءات الإعلام الجديد من خلال كتّابها، وهكذا يعود الكاتب الجيّد إلى التأثير من جديد في الرأي العام.
* كاتب سعودي