في جولة محاضرات برعاية السفارة الأميركية في اليمن قبل الانتخابات الوطنية عام 1993، اجتمعت مع قادة مختلف الأحزاب السياسية واستمعت إلى شكاوى حول السلوك القمعي وغير «الديمقراطي» للحزب الحاكم.

وكان بعضها انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وبعضها الآخر كان تافهاً على ما يبدو، لكنه كان يهدد ديمقراطية جديدة هشة، مثل أنهم «يمزقون لافتاتنا» و«يشترون الأصوات بالمال» و«يتحرشون بمتطوعينا».

على هذه الشكاوى الأخيرة، أجبت بأن «لدينا هذه المشكلة في ميشيجان»، أو أن هذا «يُطلق عليه في فيلادلفيا توزيع المال»، أو«رأينا هذا النوع من المضايقات من مؤسسة الحزب».

وحين أبدى مرافقي من السفارة دهشته، قلت: «لن أتظاهر بأننا مثاليون، فلماذا إذن يحاول أي شخص محاكاتنا؟» وأشرت إلى أنه على الرغم من عدم الكمال، يوفر نظامنا الفرصة لمحاسبة المخالفين وتصحيح أخطائنا وتصحيح الانتهاكات. وأعتقد أن ليس بوسعي قول هذا اليوم.

صحيح أن بعض الأميركيين مازالوا يعتقدون أننا «المدينة المشرقة على التل»، والنموذج الذي تحتذيه الديمقراطيات الناشئة في جميع أنحاء العالم، لكن ما أصبح واضحاً بشكل مثير للقلق هو أن ديمقراطيتنا في خطر. فنحن نقول للعالم إن الانتخابات الحرة والنزيهة وحماية الحقوق الشخصية والسياسية هي أسس النظام الديمقراطي.

ونحكم على البلدان الأخرى من خلال مدى التزامها بذلك. وصحيح أن هذه المعايير قد تكون لبنات الأساس، لكن المساءلة والاحترام المتبادل بين الفائزين والخاسرين هي المادة اللاصقة التي تثبت هذه اللبنات الأساسية. وبدونها، يتعرض الصرح بأكمله لخطر الانهيار. وللأسف، تلقي الآثار المدمرة لغياب المساءلة والكياسة بظلالها على الولايات المتحدة اليوم.

وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، رأينا أسباباً ملفقة تسوغ الحرب على العراق، وقوانين وأوامر تنفيذية انتهكت الحقوق الأساسية لكل من المهاجرين الشرعيين والمواطنين، ووثائق «قانونية» تسمح بتعذيب الأسرى.

ولم يخضع للمساءلة الأسباب الملفقة أو الأكاذيب أو التعذيب. وتمرد السادس من يناير والتحريض الإجرامي الذي سبقه يستدعي المساءلة. لكن الكونجرس المنقسم رفض إجراء تحقيق كامل من الحزبين، مما أجبر «الديمقراطيين» على المضي قدماً مع عدد قليل من «الجمهوريين» الشجعان لكشف الحقيقة حول هذا التهديد غير المسبوق للديمقراطية الأميركية.

وما كان يمكن أن يكون بحثاً موحداً من الجانبين عن المساءلة يتعرض الآن لطعن من الجمهوريين باعتباره مجرد ذريعة حزبية. ويؤكد «الجمهوريون» البارزون أن انتخابات 2020 سرقت، لكن أعوانهم يتنافسون على مناصب حساسة للإشراف على الانتخابات في المستقبل. وهناك تشريع جديد في ولايات كثيرة سيجعل التصويت صعباً، مما يعرض حرية ونزاهة الانتخابات للخطر.

والاستقطاب في السياسة ينطوي على القدر نفسه من الخطر. ففي الماضي، وعلى الرغم من خلافاتهما، كان الحزبان يتحدان لإقرار تشريعات تخدم المصلحة الوطنية ويذعنان للبيت الأبيض فيما يطرحه من تعيينات رئاسية. فقد أيد بعض «الجمهوريين» تشريعات للحقوق المدنية وأقروا ميزانيات، بينما دعم ديمقراطيون بعض الخفض الضريبي وإصلاحات تعليمية. ووافق الجانبان على الترشيحات للمناصب العليا من رؤساء ينتمون لحزب الجانب الآخر. لكن نظاماً جديداً بدأ في السياسة الأميركية بعد أن أصبح نيوت جينجريتش رئيساً لمجلس النواب. فحينها تحول الكونجرس نادياً حزبياً استُخدم للنيل من إدارة كلينتون. وتفاقم هذا الخلل الوظيفي الحزبي فحسب بمرور الوقت، وبلغ اليوم أبعاداً كارثية جعلت الكونجرس غير قادر على حشد الأصوات اللازمة لإقرار تخصيص لقاحات ضد المتحورات الجديدة من فيروس كورونا. وبدلاً من أن نكون «المدينة المشرقة على التل»، أصبحنا عبرة لما يمكن أن يحدث في غياب المساءلة والكياسة السياسية. وتحاكي اختلالاتنا تلك الموجودة في لبنان حيث تمنع الطائفية المساءلة عن اغتيال رئيس وزراء أو تفجير دموي لميناء. أو مثل إسرائيل، حيث يحاكم رئيس وزراء سابق بتهمة الفساد والنفوذ يروج لإحباط تشريع يفضله أنصاره لمنع خصومه من تحقيق انتصار. أو مثل العراق، حيث تعرقل الأحزاب الخاسرة تشكيل الحكومة، والفائزون المحبطون يسيطرون على البرلمان ويطالبون بانتخابات جديدة. وما لم نلق نظرة فاحصة طويلة في المرآة، ونتعرف على الأزمة التي تواجهنا، ونتخذ إجراءات تصحيحية، فسيظل هذا هو الاتجاه الذي نسير فيه. رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن