عندما ذهبت إلى أميركا للتدريس للمرة الأولى عام 1993 كنت أعرف كتاب «جون راولز» الشهير: (نظرية العدالة، 1971).

لكنني لم أكن أعرف أنّ مؤلف الكتاب جون راولز أستاذ بكلية القانون بجامعة هارفارد. وعندما عرفت ذلك من أحد الزملاء ذهبت معه لحضور بعض دروس الكورس الذي كان يلقيه الأستاذ عن الفلسفة الأخلاقية، كان موضوع الدرس الذي حضرته لفيلسوف القانون الشهير: الأصول الأخلاقية للدستور الأميركي.

وقد بدأ بالإشكالية والتي تتمثل في أنّ «عصر الأنوار» فصل الأخلاق والشأن العام كلاهما عن الدين. لكنّ الآباء المؤسسين الذين كتبوا الدستور كانوا متدينين ويعتبرون الدين أصلاً للقيم الكبرى والأخلاق. واعتبر «راولز» أنه بسبب ذاك الفصل الأوروبي والتركيز على علمانية الدولة فإنه نادراً ما جرى البحث في أخلاقيات الدستور حتى لا يرتبط بالدين، ويُعتبر داعيةً للشرذمة بعد أن تعدديات الديانات وأخلاقياتها في الولايات المتحدة.

واعتبر الأستاذ أنه كان في الفصل إفقار حتى لمدنيات الدستور، وذلك لأنّ المواطنين الأميركيين يغلب عليهم التدين، وقد تعددت الديانات، لكن تسود فيها قواسم مشتركة ينبغي الاستناد إليها. ثم ذكر اعتبارات العودة للوصل بين الدين والفلسفة والأخلاق كما ظهرت في كتابه: «نظرية العدالة»، ثم ظهرت أكثر في كتابه: «العدالة باعتبارها إنصافاً». ما هي فائدة هذا الوصل للشأن العام وللفلسفة بالأخلاق؟ أعطى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أو أبقى للدين وظائف أخلاقية.

بيد أنّ الذين كتبوا في الأخلاق من الفلاسفة من بعد ذهبوا مذاهب شتى في تأصيل ما سموه «الأخلاق العلمانية» التي تعتبر الإنسان أحياناً كائناً أخلاقياً باعتبار تأسس الحاسة الأخلاقية لديه في الطبيعة الإنسانية، وصدور الإحساس بالمسؤولية لديه عن «عقل التدبر» وليس عن الدوافع الدينية! لقد اعتبر كثيرون من الفلاسفة أنّ في إقصاء الدين وأحياناً الفلسفة عن الأخلاق الكثير من التعمل والاصطناع الذي لا يجوز أن يبقى مائتي عام وأكثر، في تشويهٍ لإنسانية الإنسان ودوافع الود والتعاطف لديه والواقعة بين الدين والأخلاق.

الدين باعتباره عاملاً في التوليف، والأخلاق الباعثة على المسؤولية. وهكذا فقد اتجه فلاسفة التأويليات في العقود الأخيرة إلى إعادة تقييمٍ لمفاهيم القيم وكم تنبثق تلك القيم عن الدوافع الدينية والرؤيوية في الإنسان وتؤثر في تفكيره وتصرفاته العملية. قبل فترة قصيرة أعلنت جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية عن إقرار بكالوريوس في الفلسفة والأخلاق. وكان ذلك جديداً تماماً في عوالم الجامعات والدراسات الأكاديمية. وتكمن جدْة هذا التخصص في قرنه الفلسفة بالأخلاق وضمناً بالدين. وبذلك تكون الأخلاق معبراً أو قناةً مفتوحةً بين الطرفين: الدين والفلسفة.

لقد تحدثت استطراداً عن الفصل بين الدين والأخلاق لدى العلمانيين أو فئات منهم. بيد أنّ الأمر ما اقتصر على ذلك. فهناك الصراع بين الدين والعلم، والصراع بين الدين والفلسفة. وكلا المجالين (العلم والفلسفة) أراد أن يكون بديلاً عن الدين في إرشاد الإنسان وتوجيهه بالمعارف والكشوف العلمية. أين يكمن خلاص الإنسان؟ لقد ثبت أنّ العلم والتفسير العقلي الفلسفي ما أرضيا الدوافع الإنسانية العميقة. ولذلك يريد أن يقيموا توليفةً تواصليةً بين الدين والفلسفة من خلال الأخلاق، وكلاهما شديد الاهتمام بها باعتبارها أداة التأثير الإنساني. الدين يركز على دوافع التعاطف، والفلسفة تركز على أخلاق المسؤولية.

وهذا موطن لقاءٍ كبير جرى تجاهله طويلاً وكان من وراء ذلك ضرر كبير لمثاليات القيم وضرورات المصالح الأخلاقية الإنسانية. يهدف بكالوريوس الفلسفة والأخلاق بجامعة محمد بن زايد إلى استحداث الوصل بعد أزمنة الفصل. وإذا كانت الفلسفة علماً عقلياً، فإنّ القيم والأخلاق مجالٌ مشتركٌ بين الدين وعقل التدبُّر الإنساني. يدرس بكالوريوس الفلسفة والأخلاق المذاهب الأخلاقية لدى فلاسفة الإسلام ولدى فلاسفة الحداثة وما بعدها.

كما يدرس تأملات دارسي الأخلاقيات من علماء الإسلام، ويتفحص بالنقد إشكاليات القصور والقطيعة ويسأل بإلحاح من خلال الدروس المكثفة عن علل القطيعة، وأواصر التواصل والإغناء. هو بحثٌ بالتأكيد عن التواصل في هذه المجالات الحيوية. والأمر صعب بسبب القطيعة الطويلة، لكنه ليس مصطنعاً أو هو يبحث عن غير موجود. فمن الذي ينكر أنّ الأديان تملك نظماً أخلاقية؟! ومن الذي ينكر أنّ الفلسفة تملك أخلاقيات دخلت في كل شيء حتى في البحث الطبيعي والممارسة الطبية؟ إنما لماذا ننسب «أخلاقيات المهنة» إلى الفلسفة وليس إلى الدين، أو لماذا لا تكون القيم والأخلاق مجالاً مستقلاً عن كلا المجالين، لكنه يتطلب تعاونهما لكي يستطيع أداء مهامه الذهنية والعلمية.

قبل عقد ونيف أمر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بتدريس مادة التربية الأخلاقية في المدارس. ويمثل ذلك إدراكاً مبكراً للاحتياجات والضرورات وسط المتغيرات العاصفة للعولمة والانكسارات في منظومات القيم. بالأمس في المدارس واليوم في الجامعة تتواصل التربية الأخلاقية مع الدين والفلسفة لتحقق تكاملاً يمكن أن يكون خصباً ومنتجاً.

* أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.