تتكرر انطباعات الغرابة، حين يلتقي العقل مع فكرة لا تتواءم مع أرضيته الفكرية «غير المرنة»، فإما هو يرفض تفهمها أو الاستفهام عنها، أو يشيح بعقله عنها رفضاً لاحتمالية وجودها أصلاً.

وفي الموقف الآنف العديد والكثير من الصور والمواقف المعاشة بشكل يومي، والتي يمكن ملاحظتها بمجرد تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا على مستوى فردي، فكيف إذا كانت المواجهة بين عقل جمعي، وفكرة وليدة بضخامة «عالم»؟ وهذا ما حصل خلال ثنائية الحداثة والعقل العربي. وفي حين أن مصطلح الحداثة والعصرنة (Modernity)، دل على إحداث الجديد والانصات للمتغير، اصطدمت خطة الحداثة بخلفيات فكرية عربية إسلامية متشبثة بقوة بقاعدة إيمانية حين فهمت أن الحداثة تعني العلمنة، أو تفضي للانتقاص من الشعور الوجداني أو تقليل التمثيل الديني والالتزام بأمور الشريعة، مما ولد العديد من التعرجات التي لا يمكن تجاوزها بسهولة. حقيقة الإعجاز الديني في الإسلام، وصلاحيته على امتداد الزمان والمكان، لا تتنافى البتة مع معطيات الحداثة التي تستهدف السمو على أخطاء التجارب الإنسانية السابقة، ولكن ما توالد معها من تطورات في الفكر الاجتماعي المتعلق بالغرب، وتصدر العقلانية بمثابة تتجاوز وجهة النظر، ترتب عليها مغالطات فكرية عجزت عن إقامة التوازن بين القيم المادية والعلمية البحتة، والقيم الوجدانية الشعورية المبنية على نوازع الإيمان، سيما أن الأخير لا يتوارث بين الأجيال بحلة جامدة، بل هو ينتقل مع حمولة تراثية فكرية وثقافية تجمع بين المقدس من مصدر الهي والمورث من محض الفكر البشري واجتهاداته، وهنا كان لازماً، أن يفرق بسلاسة بين الجديد والحديث.

فالحداثة لا تعني الانسلاخ عن المقدس، يقول أدونيس: «للجديد معنيان: زمني وهو، في ذلك، آخر ما استجد، وفني، أي ليس في ما أتى قبله ما يماثله. أما الحديث فذو دلالة زمنية ويعني كلّ ما لم يُصبح عتيقاً. كل جديد، بهذا المعنى حديث. لكن ليس كل حديث جديداً، الجديد يتضمن إذن معياراً فنياً لا يتضمنه الحديث بالضرورة، وهكذا قد تكون الجدة في القديم كما تكون في المعاصرة».

والذي يثبت تركيز مسارات الحداثة على نهضة الإنسان ما أرجئه هو ذاته من عوامل يظن أن بداية الحداثة انطلقت معها، كاختراع الطابعة المتحركة، أو تصاعد الثورة اللوثرية ضد السلطة الكنسية التي أولت ذاتها امتداداً لا يمت لوظيفتها بصلة، أو مع انتهاء الحرب سواء حرب الثلاثين، الثورة الأميركية أو الفرنسية والتي شكلت مجتمعةً محاولاتِ خلاصٍ وتغيير بعد فترة «منهكة» من الظروف القاسية.

ورغم ما صدر عن تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية المستدامة للعام 2002، من أن عجز العالم العربي يقف وراءه ثلاث عوامل من خلل في تحقيق الحرية، وفي المعرفة، وفي تمكين المرأة.

وبأن الإخفاق الحاصل في المشاريع التحديثية العربية وتأخرها عن غيرها على المستوى العالمي تقف وراءه حزمة من المعوّقات التاريخية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية، والسياسية، نجد أن العقل العربي أربك في مواجهته الحداثة من خلال إشكالية لثلاث مرات يمكن اعتبارها رئيسة، فأول مرة هي بسبب تناولها كفكرة «مستوردة» مرتبطة باختلاف جغرافي وديني، وثاني مرة اصطدم الفكر العربي مع هضم فكرة الحداثة بسبب سوء فهم اختلط بإرهاصات الحداثة الغربية وخطوات تقدمها، الأمر الذي يفضي إلى التفكير في أن قبول الحداثة ربما يعني التخلي عن الدين ككل، والتجريد من الثوابت التي لا يزال لوقتنا هذا يتم الخلط بينها وبين غيرها، وثالث مرة وقع فيها «العقل العربي» بشكل عام، في مأزق تصعيد حامي الوطيس بينه وبين فكرة الحداثة بسبب عدم إدراك العلاقة الترابطية والتشاركية بين ما تحمله من عوامل تقدم، وبين الأمل في الوصول إلى اكتفاء ونهضة اقتصادية وسياسية واجتماعية وتعليمية وثقافية.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة