حين دعا وزير الخارجية التركي إلى (مصالحة أو اتفاق) بين المعارضة والنظام السوري تصاعد قلق المعارضة السورية في مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، وخرجت مظاهرات رافضة في العديد من المدن السورية التي يعيش فيها نحو خمسة ملايين سوري في انتظار حل يحقق مطالبهم. وجراء الأزمة السورية تضاعف عدد اللاجئين السوريين إلى أصقاع الأرض، ولكن تركيا المجاورة كانت الأقرب، وبات عدد اللاجئين السوريين فيها نحو أربعة ملايين.
كان أردوغان رئيس وزراء تركيا قبل أن يتولى الرئاسة عام 2014 يؤسس للمشروع التركي، وكان يعلم أن فضاءه الأرحب هو العالم العربي ثم الإسلامي، لاسيما بعد أن رفض الاتحاد الأوروبي قبول تركيا، ومن الطبيعي أن يرى أن بوابته سوريا، التي تريد انفتاحاً وبوابة على الغرب أيضاً، ووجدت في التقارب مع تركيا مجالاً حيوياً.
وكانت زيارة أردوغان الأولى لسوريا عام 2004 بداية علاقة سرعان ما صارت قوية ولاسيما بعد أن زار بشار الأسد تركيا في العام ذاته كأول رئيس سوري يزورها بعد الاستقلال عام 1946، وكان ثمة هاجس مشترك بين أردوغان وبشار هو القلق من المشروع الكردي الانفصالي في العراق، وأذكر تصريحات لبشار حذر فيها من مغبة أي دعم لانفصال الأكراد في العراق قائلا إن ذلك الأمر يعتبر خطاً أحمر لدى كل دول المنطقة، وكان واضحاً أن تركيا التي أقلقها سابقاً دعم سوريا لحزب العمال الكردستاني تريد أن تتفق وجهة نظرها مع دمشق في موقف موحد من رغبة دعاة الانفصال من الكرد، وقد سادت حالة من الطمأنينة في العلاقات السورية التركية، وتطورت نحو ما أعلنه أردوغان من رغبته بأن يصعد التبادل التجاري إلى خمسة مليارات دولار قريباً.
لكن ما حدث في مارس 2011 أوقع البلدين في قطيعة نارية، ومع قمة طهران الثلاثية التي عقدت منتصف يوليو الماضي، وقيل إنها فشلت، وقع أردوغان في أزمة صعبة، فهو لا يستطيع التراجع عن تصميمه المعلن في الحملة على الشمال السوري، ولاسيما أنه مقبل على عام الانتخابات، ولا هو قادر أن يغامر بحملة عسكرية لم توافق الدول الكبرى عليها، ولعله وجد في لقاء بوتين الأخير في سوتشي مخرجاً آمناً، وهو العودة إلى النقطة التي تلتقي فيها سوريا مع تركيا حول الملف الكردي.
ومع أن الأكراد عامة لا يفكرون في الانفصال عن سوريا، فهم يطلبون إدارة محلية وحقوقاً ثقافية واجتماعية تقر بها المعارضة السورية، إلا أن فريقاً من الأكراد يجد انتماءه إلى حزب العمال الكردستاني أقوى من أي انتماء آخر، ولكون «قسد» تسيطر على أهم ثروات سوريا في الشمال الشرقي، وعلى ثلث مساحة سوريا، فلن تقبل دمشق أن تقدم تنازلات لها. ويبدو المشترك الممكن من وجهة نظر تركيا هو تحييد الموقف الرسمي السوري، أو المشاركة في صد الخطر المشترك، وتركيا تعلن أن أهدافها هي أمنها القومي وليست في وارد مواجهة عسكرية مع سوريا، وليس من أهدافها التركية إسقاط النظام السوري، وهي ترعى مصالحها قبل أية مصالح أخرى.
وفي اعتقادي أن التصريحات الراهنة من الجانب التركي هي نوع من نزع الصاعق في التدخل العسكري المحتمل، وهي تقع في إطار التكتيك وليس الاستراتيجية، لكن الشروط التي وضعها الأتراك لن تكون مقبولة من حكومة دمشق، ولن تستطيع تركيا التنازل عن هذه الشروط سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً.
* وزير الثقافة السوري الأسبق