التجربة التاريخية لمحاولات روسيا التوجه نحو الغرب خلال القرن العشرين بكامله وما مضى حتى الآن من القرن الحالي تفصح عن عدة دروس:
فأولاً، ضمن عملية التغير الكارثي للأيديولوجيا - من العداء الكامل إلى القبول الكامل غير المشروط بالقيم الغربية - أصبحت النخبة الروسية رهينة للثقة اللا عقلانية في التعاون الغربي الأولي، ولفكرة أن الغرب من شأنه أن يصبح جاهزاً لتقديم تضحيات كبرى كتعويض لبلادهم في مقابل التنازلات الاستراتيجية الروسية. لكن عوضاً عن ذلك اتضح بأن الغرب لديه مصالح قومية - وطنية مسيطرة لا يمكن التخلي عنها أو الابتعاد ولو قيد أنملة عنها، وبأن السياسيين الروس خلقوا لأنفسهم عالماً طوباوياً غير واقعي بوجود أخوة غربية يمكن الانضمام إليها كوافدين قدماء - متجددين.
لكن في نهاية المطاف اتضح لهم بأن التجربة التي يمرون بها مريرة، وأن التفاؤلات عالية الموج للأيام الأولى من انهيار الاتحاد السوفييتي أفرزت استيعاباً ودروساً لمقولات الواقعية السياسية، بمعنى أن الموجة الجديدة من التجارب جلبت معها الكثير من عدم الرضى والمرارة وخيبات الأمل.
ثانياً، تعتبر فترة هيمنة الراديكاليين الديمقراطيين على السياسة في روسيا زمناً ضائعاً من زاوية البحث عن المصالح الحقيقية للدولة الروسية.
وفي الوقت نفسه كان الشركاء السابقون في حلف وارسو المنحل وأشقاء الأمس من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق يدفعون بشكل مفتوح بالمصالح الروسية بعيداً - مع موافقة الغرب. لذلك كانت ردة الفعل المعاكسة في داخل روسيا هي الانقسام السياسي وعدم الاتفاق الجاد الذي دمر القسم الراديكالي الديمقراطي من الحكومة الروسية.
وعلى المنوال نفسه أصبح خطر القوميين الروس الراديكاليين الوافدين إلى السلطة حديثاً حقيقة مدمرة، فأخذت غيمة داكنة من الخطر القومي تتشكل وتلوح في الأفق.
ثالثاً، عملت تجربة الإصلاح في روسيا على إظهار فهم جديد لغرابة خصوصية الغرب التي اتضح بأنها مختلفة تماماً عن القيم الروسية، ولها نظام خاص بها من النسق السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي.
لقد ظهر على السطح فهم مميز بأنه ليس من السهل على روسيا أن تصبح جزءاً من الغرب بقدرة قادر أو في ما بين فتح عين وإغماضها.
وهنا دعوني أوضح بأن روسيا لم تشارك في الثورات الغربية الكبرى الثلاث: الصحوة والإصلاح الديني والتنوير التي خلقت الغرب المعاصر، وبأن روسيا كانت قد ولدت الثورات الخاصة بها التي أفرزت طريقها الهادئة في الحياة.
وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي قامت النخبة السياسية الروسية المعادية بالتوجه نحو الغرب بابتكار نظرتها وركائزها الجديدة بوسائل مختلفة جداً عمّا تعتقده جماهير الشعب الروسي، وبقيت الأقاليم والأرياف الروسية الكبرى محافظة على طرقها التقليدية في الحياة والتي هي مختلفة جذرياً عن المناخ السطحي المصطنع الذي يسود في المدن الكبرى.
وفي واقع الأمر موجة التغيير الطموحة التي سادت في سنوات الإصلاح قادت إلى ردة فعل معاكسة على السطح السياسي، هي بمثابة تعبير حقيقي عمّا يدور في العمق السياسي الخاص بالجماهير الروسية خارج المدن الكبرى، أي في الأقاليم والأرياف التي تحتضن معظم الكثافة السكانية الروسية ما يجعلها المُعبر الحقيقي عن الأهمية والقوة والنفوذ السياسي والاجتماعي للشعب الروسي.
ونتيجة لتجربة الإصلاح اللا واقعي التي عانت منها الدهماء الروسية أكثر من غيرها أصبح الريف أكثر أصولية وقومية انعكست على العلاقة بالغرب سلباً.
رابعاً، عدم الرضى عن عمليات «التغريب» السريعة التي مارسها الراديكاليون الديمقراطيون فيما بين عامي 1991 - 1995 زرع شكوكاً في الوعي الجماهيري الروسي بالنسبة لصلاحية الفكرة الأساسية للشراكة مع دول الديمقراطيات الغربية - والتي هي متجذرة أصلاً، ما أدى بدوره إلى قيام المجتمع الروسي بمناقشة البدائل المتاحة.
وعليه، فإن مرحلة التغييرات الراديكالية التي مرّت بها روسيا أدت إلى إيقاظ الأفكار الخاصة بالاستدارة نحو الشرق والجنوب، وبالمقولات الخاصة بأن تصبح روسيا دولة آسيوية بهويتها وقيمها الروسية مع ميل واضح باتجاه المحيط الهادئ وآسيا الوسطى وإيران وتركيا ودول العالم العربي، وربما أن الحرب الحالية في أوكرانيا، هي أولى تجليات هذه النظرة الجديدة.
*كاتب إماراتي