أَثْرَتْ الأطروحات القديمة العديد من جوانب الإدراك للقضايا الإنسانية بمختلف مجالاتها، لتمتد في معاصرتها لنطاق أكثر اتساعاً ارتكازاً على الأفكار والتجارب النقدية السابقة من جهة، وانطلاقاً من رؤية استشرافية بخصوصيات مختلفة، وظروف جديدة.

شكلت الأداة النقدية العربية المعاصرة اتجاهاً قوياً وبارزاً في الساحة الحداثية، سيما في ظل الإشارات البارزة من كافة المفكرين والفلاسفة على الإفرازات والانعكاسات الواضحة لها في الواقع المعنوي والملموس.

والدواعي لتصاعد الجهد النقدي المتمعن في جسد الحداثة، ما واجهته من مظاهر أو منهجيات تناول غير دقيقة.

فقد مال العديد من مرجحي رياح الحداثة، لمحاولة نقلها (قطعة واحدة) مستوردة من التجربة الغربية، الأمر الذي لم يلتفت للفروقات والاختلافات بين كل من الجغرافيتين، الأمر الذي آل للعودة من جديد لنقدها ورفض «إنزالها» على المجتمع العربي والإسلامي، خشية إلحاق ضرر أكبر من النفع المجني من تلك الحداثة، والتي عبر عنها الجابري بقوله: «لا تستطيع الدخول في حوار نقدي تمردي مع معطيات الثقافة العربية لكونها لا تنتظم في تاريخها، إنها إذ تقع خارجها وخارج تاريخها لا تستطيع أن تحاورها حواراً يحرك فيها الحركة من داخلها، إنها تهاجمها من خارجها مما يجعل رد الفعل الحتمي الانغلاق والنكوص».

وقد أثبت النقد دوره الدقيق في هذا السياق، سيما في تتبع المفارقات الواضحة في المأمول من استقدام الحداثة، والنتاجات الصادمة الناجمة عن «سوء الاستعمال» لمعطياتها، وتجاوز تفاصيل الاختلاف التاريخي والظرفي وإهمال الخلفيات الواقعية والدينية المكونة لكل مجتمع.

ومن هنا ارتطمت آمال «الحلم العربي» بتحقيق قفزات نهضوية تشبه الخطوات الكبيرة جداً من النجاحات والتطورات في المجتمع الغربي، ليجد نفسه مقيداً بالعديد من التحديات الجديدة من عنف، وميل للإرهاب، ورفض للآخر، وصدام حضاري عوض اندماج وتناغم فارتدت الحداثة ها هنا قفازات جاذبة من حرير ولكن أخفت تحتها مخالب جارحة -كما عبر عنها أركون- ولكن هل المخالب فعلاً كانت للحداثة أم للمنهجية الفكرية التي رأتها كذلك؟

وبالانطلاق من استيعاب مفصلية التعرج التي أفشلت الارتواء بالتجربة الحداثية الغربية لدى العرب، اشتغل العديد من المفكرين بمحاولات إخراج الحداثة من قولبتها الجامدة، والاتجاه نحو أدوات حداثة تشبه الوسط العربي، وتتناغم معه، وذلك من خلال صب الجهد النقدي تجاه الفلسفات الغربية وتفكيكها، وصولاً لبديل أكثر ملاءمة يمكن تسميته بـ«الحداثة الإسلامية».

ومن ذلك وصل العقل العربي لحقيقة مفادها أن الحداثة لا تؤخذ مقولبة، سيما أن بيت القصيد منها حداثة القيم لا حداثة الزمن، أي الإبداع في التطوير لا التمرد والجمود.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة