قبل أربعة عقود، عملتُ لمدة سنة في الحكومة الأميركية، ضمن فريق موظفي «مجلس المستشارين الاقتصاديين». كانت تلك وظيفة تقنوقراطية. وكنتُ كبير الاقتصاديين الدوليين، أما كبير الاقتصاديين الداخليين، فقد كان شخصاً يدعى لاري سامرز. 
المهم، قضيتُ معظم وقتي في المكتب، أشتغل على الأرقام. غير أنني شاركت في بعض الاجتماعات على مستوى الحكومة، وما زلت أتذكر بشكل خاص اجتماعاً يتعلق بخطط أوروبية لإنشاء خط أنابيب من شأنه زيادة واردات الغاز من الاتحاد السوفييتي بشكل كبير. وكان بعض المسؤولين يبحثون عن طرق لردع المشروع، ولكن لا أحد منهم كان يملك أفكاراً جيدة. 
غير أن أولئك المسؤولين لم يكونوا مخطئين بشأن قلقهم من أن يؤدي الاعتماد على الغاز السوفييتي – الروسي لاحقاً – إلى انعدام استقرار استراتيجي. إذ أصبح اعتماد أوروبا على الغاز الروسي بالفعل أكبر خطر يواجه الاقتصاد العالمي الآن. 
روسيا قوة اقتصادية من الدرجة الثالثة، ولكنها وأوكرانيا تُعدان مصدِّرين كبيرين لبعض أنواع السلع، أو كانتا كذلك. ومنذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، ارتفعت أسعار القمح – الذي ينمو الكثير منه في حزام «التربة السوداء» الذي يمتد عبر أوكرانيا وروسيا وكازخستان – وكذلك الزيت، الذي يستخرج الكثير منه في جبال الأورال. 
غير أنه مؤخراً انحسرت معظم صدمة الأسعار الناجمة عن الحرب. فوفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، فإن أسعار الغذاء العالمية فقدت معظم ارتفاعها السابق خلال الحرب. كما انخفضت أسعار الزيت بشكل مهم من أعلى مستوياتها. 
ما يحدث في هاتين الحالتين، هو أنه يتم تداول السلع الزراعية والنفط عموماً في الأسواق العالمية، التي تسمح بكثير من المرونة –إيجاباً أو سلباً. وعلى سبيل المثال، فإن روسيا تستطيع بيع نفطها للهند بدلا من أوروبا، وأوروبا تستطيع بدورها شراء النفط الشرق أوسطي الذي كان سيذهب إلى الهند. وإذا أضفنا محصول قمح أميركي جيد وعوامل مثل ضعف الطلب على النفط من الصين التي تواجه مشاكل، تصبح صدمة أسعار السلع الإجمالية أصغر مما كان الكثيرون يخشونه. 
غير أن ثمة استثناء واحداً وهو فريد من نوعه، ألا وهو: الغاز الطبيعي الأوروبي. فخلافاً لأسواق النفط والقمح، فإن سوق الغاز ليس عالمياً بالكامل. والطريقة الأرخص لتصدير الغاز هي عادة من خلال خطوط أنابيب، تقسِّم العالم إلى أسواق إقليمية منفصلة، تحددها الأماكن حيث تمتد خطوط الأنابيب. أما البديل الرئيسي، فهو تصدير الغاز على شكل سائل، وهي الطريقة التي يصل بها إلى الأسواق التي لا ترتبط بخطوط أنابيب، ولكن هذا يتطلب عمليات تصدير ومحطات مصممة على نحو خاص لا يمكن توفيرها بسرعة خلال أزمة. 
وهو ما يوصلنا إلى اللحظة الحالية. فصادرات الغاز الروسي إلى أوروبا انخفضت بحوالي 75% مقارنة مع العام الماضي. ويزعم الروس أنهم يواجهون صعوبات تقنية، ولكن لا أحد يصدِّق ذلك، إذ من الواضح أن الأمر يتعلق بحظر بحكم الواقع، بهدف الضغط على الغرب من أجل إيقاف دعمه لأوكرانيا. والنتيجة كانت ارتفاعاً كبيراً جداً في أسعار الغاز الأوروبية. 
وإذا أراد المرء تشبيهاً تاريخياً، فإن الارتفاع الأخير في أسعار الغاز الأوروبية بعشرة أضعاف أكبر بكثير من صدمات أسعار النفط التي عرفها العالم في 1973-1974 و1979-1980، والتي لعبت دوراً كبيراً في الركود التضخمي خلال عقد السبعينيات. 
وربما ليس من قبيل الصدف أن يكون أحدث ارتفاع في الأسعار في منتصف شهر يونيو. وهو التاريخ تقريباً الذي أصبح فيه واضحاً أن هجوم روسيا الثاني في أوكرانيا – الهجوم الذي أعقب محاولتها الأولى للسيطرة على كييف – لن يحقق نتائج حاسمة وأن التوازن العسكري من المحتمل أن يميل لصالح أوكرانيا بالتوازي مع بدء وصول الأسلحة الغربية. ولهذا لجأت روسيا إلى الحرب الاقتصادية بدلاً من ذلك. 
حالياً، تقوم أوروبا بتعويض النقص جزئياً من خلال استيراد الغاز الطبيعي المسال، وخاصة من الولايات المتحدة، التي تنتج الكثير من الغاز الطبيعي من الصخر الزيتي ولكن القدرات الخاصة بالغاز الطبيعي المسال محدودة، وهذا ما يفسّر كون أسعار الغاز الطبيعي الأميركي، وإن كانت مرتفعة، لم ترتفع بالقدر نفسه الذي ارتفعت به الأسعار الأوروبية. 
ولكن، إلى أي مآل سيؤول الوضع؟ الواقع أن الاقتصادات المتقدمة والمتطورة لديها قدرة كبيرة جداً على التكيف والتأقلم، وأوروبا كانت منهمكة خلال الآونة الأخيرة في بناء مخزون من الغاز يكفي لتجاوز الشتاء، ولا شك أن القارة ستجد طرقاً لتدبر أمورها حتى وإنْ كانت لا تتلقى سوى القليل جداً من الغاز الروسي. ولكن موجة تضخم مرتفع أمر لا مناص منه، والركود في أوروبا يبدو محتملاً جداً. 
غير أنه بالمقابل ربما تُعد الاعتبارات المتعلقة بالاقتصاد الكلي ثانويةً بالنسبة لمسألة كيف ستتعاطى أوروبا مع الظروف الصعبة التي ستواجها الكثير من الأسر جراء ارتفاع أسعار الطاقة. ولهذا، سيتعين على الحكومات إيجاد طرق للتخفيف من ذاك العبء – مشكلة صعبة حين ترغب أيضا في الإبقاء على محفزات للحفاظ على الطاقة. 

البلدان التي تبدو أقل تصميماً إزاء الضغط الروسي – ألمانيا – هي أيضا بلدان تبذل أقل قدر من الجهد لدعم أوكرانيا، وبالتالي لا يهم كثيراً أن شعرت بالخوف وانقادت للابتزاز.غير أنه بغض النظر عن الأشياء التي ستحدث الآن، فإننا تعلَّمنا درساً موضوعياً في مخاطر الاعتماد اقتصادياً على دول أخرى. وإذا كان الاقتصاديون متشككين بشأن حجج الأمن القومي لتقييد التجارة الدولية، التي كثيرا ما أسيء استخدامها في الماضي، فإن أفعال روسيا تمنح تلك الحجج قوةً أكبر بكثير الآن. 

*كاتب وأكاديمي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز» 
Canonical URL: https://www.nytimes.com/2022/08/26/opinion/russia-ukraine-oil-gas-prices.html