لا يمكن تناول عراق الحاضر دون استحضار لكلمات بول بريمر، رئيس الإدارة المدنية بعد غزو العراق في 2003 «اليوم أنهينا 1000 عام من حكم السنة في العراق». أما اليوم، فإن شيعة العراق من يُحاكم ما أنتجه الغزو من نموذج للدولة الطائفية، والتي لطالما كانت استحقاق المظلومية الشيعية المنتظر.

وما شهدته بغداد الأسبوع الماضي ما هو إلا امتداد طبيعي لحراك الأول من أكتوبر 2019، إلا أنه في انعطافته الأخيرة قد وثّق للحظة انعتاق تاريخي للعراق المذهبي وطنياً من ولاية المذهب سياسياً.

ورغم ازدحام المشهد بالتفاصيل العراقية، إلا أن الجميع (التيار الصدري والإطار التنسيقي الشيعي) اتفقا على وقف التصعيد ميدانياً، وذلك أولاً، لكلفة المناورة بالدم الشيعي ومخاطر اتساع حالة الاحتراب الشيعي- الشيعي عراقياً. أما ثانياً، فيتمثل بحتمية سقوط الولاية الطائفية اجتماعياً وسياسياً نتيجة ذلك الاحتراب. وما قرار مقتدى الصدر اعتزال العمل السياسي في 28 من أغسطس الفائت، إلا مناورة محسوبة العواقب واستعراض لمكانته السياسية قبل الروحية ميدانياً وبكافة الأدوات.

وما إصداره لأمر إخلاء المنطقة الخضراء من قبل أنصاره، إلا رد مباشر على إعلان المرجع الروحي للتيار الصدري كاظم الحائري اعتزال «المرجعية» والطلب لمقلديه اتباع علي خامنئي في قم بعد اتهامه الصدر بأنه «فاقد للاجتهاد، وغير مؤهل للقيادة الدينية». ويتمثل عمق الأزمة التي تمر بها مؤسسة الحكم المتكافلة طائفياً بقرار رئيس «عصائب أهل الحق»، قيس الخزعلي بإغلاق كافة مقار وأفرع العصائب متذرعاً «بأن هناك من يدبر لتوريط العصائب في أمر ما».

وبرغم ما يكتنفه تصريح الخزعلي من إبهام، إلا أنه ومن قبله عمار الحكيم، أدراك حجم التحول في موقف قواعدهم السياسية، والتي لم تعد تعبيراً لحظياً قابلاً للاحتواء السياسي عند التذكير بما يمكن أن ينتج عنه تفريط الشيعة بمكتسبهم التاريخي شيعياً. الأزمة لم تعد سياسية أو دستورية حتى بعد دخول المحكمة الاتحادية على خط الأزمة، وتأجيلها أمر البت وللمرة الثالثة في أمر حل البرلمان، والتحضير لانتخابات جديدة.

إلا أن الفسحة الزمنية إلى حين النطق بالحكم يوم السابع من سبتمبر الجاري، قد تتيح لبعض قيادات الإطار التنسيقي الشيعي مراجعة مواقفهم النهائية على ضوء ما أنتجته المواجهات من واقع، أو ربما التفاهم على تشكيل حكومة أكثر مواءمة واشتراطات الصدر.

قراءة قرار زعيم التيار الصدري اعتزال الحياة السياسية يجب أن يُتناول من عدة أبعاد، فهل كان ذلك مناورة استهدفت أكثر من هدف سياسي، والمخرجات أكدت ذلك؟ فقد وظف رمزية (الصدر) شيعياً، واستغنى عن مكانتها الروحية ولو مؤقتاً. أما ثانياً، فقد فرض الصدر على كافة فصائل «الإطار التنسيقي» وعموم القوى السياسية العراقية التناغم مع قراراته الميدانية، لا عكس ذلك وللمرة الأولى.

المذهبية السياسية العراقية هي أمام مفترق طريق تاريخي، ويتحتم عليها الاعتراف بفشلها في إنتاج نموذج سياسي قابل للاستدامة وطنياً، أو قابلية احتوائها لتنوع العراق عرقياً ودينياً خارج إطار هيمنة النموذج الشيعي، وسوف يصعب على المرجعيات السياسية الطائفية إقناع العراقيين بقابلية استدامة الوصاية السياسية واجتراره واقعاً إلى ما لا نهاية.

* كاتب بحريني