إليكم قصة لم أذكرها من قبل: سافرت إلى تونس أواخر عام 1993 للقاء رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. كنت وقتها رئيساً مشاركاً في مشروع «بناة من أجل السلام»، الذي دشنه آل جور، نائب الرئيس الأميركي آنذاك للمساعدة في خلق فرص عمل وتعزيز النمو الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وأُرسلت إلى تونس للقاء الرئيس عرفات واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لشرح مهمتنا والحصول على دعمهم. وكنت قد التقيت بعرفات مرات عدة من قبل. كنا نعرف بعضنا البعض ودار بينننا سجال صريح في الغالب.

وحين وصلت، كان الرئيس يجري محادثة هاتفية. ونقل لي أنه كان يتحدث إلى «شعبه في لبنان». كان يعلم أن هذا من شأنه أن يثير الخلاف كما جادلنا معه من قبل حول الطبيعة الاستفزازية، والتي قد تؤدي إلى نتائج عكسية لوجودهم المسلح في لبنان. واختتم تعليقاته قائلاً، «كما ترى، جيمي (هكذا كان يناديني) هذه هي مفاتيح القيادة: التواصل وتواجد قوة احتياط».

وحينذاك، دخل الشاعر الفلسطيني الشهير محمود درويش الغرفة وقال له عرفات، «محمود، أقول لجيمي إن مفاتيح القيادة هي التواصل وتواجد قوة احتياط. أليس هذا صحيحاً؟» وأجاب محمود: وأيضاً «الرؤية يا سيدي. ولوح عرفات بيده في استنكار قائلاً «ليس مهماً». لم أكتب عن هذا من قبل احتراماً لياسر عرفات الذي أصبح في ذمة الله الآن واحتراماً لمساهماته في الصعود بالهوية والحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى الرغم من خلافاتنا.

وأشارك هذه القصة الآن لأن فكرة «الاتصال والقوة» من دون رؤية ما زالت تعكس المعضلة الفلسطينية. كان عرفات متحدثاً فعالاً، ومسؤولاً ليس فقط عن نقل الرسالة الفلسطينية إلى الجماهير في جميع أنحاء العالم، لكن أيضاً عن رأب صدع الخلافات داخل الحركة الفلسطينية.

ومع ذلك، عندما تحدث عرفات وجيله عن الحقوق الأخلاقية والقانونية للفلسطينيين أو عن «فلسطين ديمقراطية علمانية»، كانوا يتحدثون عن أفكار، رغم أنها مقنعة ومسوغة، لكنها لم تشكل رؤية استراتيجية مقترنة بتكتيكات واقعية وقابلة للتنفيذ لتحقيق هذه الرؤية. وهكذا، بينما ألهم عرفات الملايين وحشد السلاح، كان استخدام هذه الأسلحة يأتي بنتائج عكسية على أهدافهم.

القيادات الفلسطينية المتنافسة اليوم - السلطة الفلسطينية، «حماس»، «الجهاد الإسلامي» - لم تفلح في استشراف رؤية استراتيجية واقعية ولم تقترح خطوات لتنفيذها. وتكافح السلطة الفلسطينية و«حماس» ببساطة من أجل البقاء والحفاظ على السيطرة، كل جانب على إقطاعيته. و«استراتيجية» حماس تصب في مصلحة إسرائيل، مما يسمح لها بفصل غزة عن بقية الأراضي المحتلة.

وتزعم«حماس» أن لها «قوة رادعة» لكن هذه القوة، في أحسن الأحوال، غير فعالة وتؤدي إلى نتائج عكسية، مما يمنح إسرائيل ذريعة لخنقها بقسوة وتوجيه ضربات قوية دوريا لتقتل مئات الأبرياء. ومع ترويض «حماس» الآن، تتحامق حركة «الجهاد الإسلامي» في توهمها بأن هجماتها العشوائية وصواريخها غير الفعالة ستغير الوضع الفلسطيني.فقد رد السياسي الفلسطيني اللامع توفيق زياد ذات مرة على الانتقادات القائلة إنه ينكر حق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة، قائلاً «قد يكون لكم هذا الحق، لكن حين يُستخدم بشكل سيئ كما تفعلون، فإنكم تفقدونه».

وما زال من الضروري إجراء تقييم واقعي للوضع الفلسطيني في مواجهة دولة إسرائيلية قادرة على الاستحواذ المسلح، وبناء على هذا الواقع، يجري تطوير رؤية استراتيجية وخطوات تكتيكية لتطبيقها. وأود أن أنتقل إلى المثال البطولي لأولئك في المجتمع المدني الفلسطيني والإسرائيلي الذين يكافحون من أجل خلق حركة من أجل التغيير يمكنها ترجمة الواقع إلى مستقبل ديمقراطي للجميع.

ولن يحدث ذلك بين عشية وضحاها، لكن إذا قامت «القيادات» بفرض الانضباط على قواتها أو، على الأقل، إبعادها عن الطريق، فقد يتمخض هذا عن كفاح جماعي غير عنيف. والعنف يصب في مصلحة إسرائيل. وعبقرية المقاومة السلمية، أنها تحول القوة العسكرية إلى نقطة ضعف وبمقدورها أن تحول الرأي العام العالمي إلى سلاح قوي للتغيير.

*رئيس المعهد الأميركي العربي- واشنطن