لا شيء يُترك للصدفة. ماتت الملكة عاش الملك. خطة الاستخلاف المنظّم مرسومة منذ عقود بكل مراحلها، وجرى تحديثها باستمرار وبمراجعة دائمة لأدقّ التفاصيل.

انتظر الملك تشارلز الثالث طويلاً قدَر والدته الملكة إليزابيث الثانية التي عُمّرت في الحكم أكثر مِن جميع مَن سبقها على العرش البريطاني، ورحلت بإرث قيمي ضخم استحقّت عليه المدائح من الداخل ومن كل أنحاء العالم. لم تكن تتدخل في أمور السياسة، كبيرة أم صغيرة، كما يفترضه موقعها في النظام، لكنها كانت تحصل في الشؤون الكبيرة على ما يرضيها.

لن يخرج العاهل الجديد عن هذا التقليد، خصوصاً أنه مدرك بأن حكمة والدته ساهمت حتى وفاتها في إبقاء أجزاء المملكة المتحدة متحدةً بالفعل، ويترتّب عليه واجب الحفاظ على هذا الوضع، رغم الصعوبات الماثلة في الأفق سواء نتيجة سياسات الحكومات المتلاحقة أو جرّاء الأزمات المستجدّة والمتعولمة. من أولى مهمات الملك الجديد أن يزور أقاليم مملكته الأربعة، إنجلترا واسكوتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية، وهو ما فعله تشارلز مراراً أميراً ووليّاً للعهد، إلا أنه سيستشعر المسؤولية هذه المرّة على نحوٍ مختلف حين يرى معالم الأزمة ببُعدَيها المحلي والخارجي. إذ إن المطالبة بالانفصال تنامت في اسكوتلندا منذ الاستفتاء الأخير (2014) الذي أبقاها في الاتحاد بنسبة ضئيلة لكنها كافية، أما أي استفتاء بموافقة لندن في 2023 فقد يفضي إلى نتيجة حرجة. قبل «بريكست» وبالأخصّ بعده، تخامر فكرة الاستقلال الاسكوتلنديين الذين صوّتت غالبيتهم ضد الخروج من الاتحاد الأوروبي وتطمح للانضمام إليه، بعد الاستقلال.

لكن الفكرة ما تزال تقسمهم، ويُعتقد أن للملك نفسه دوراً جوهرياً في حسمها، لأنه معني بالحفاظ على المملكة المتحدة. لا تطالب ويلز بالاستقلال لكنها تضرّرت من تبعات «بريكست»، ومثلها إيرلندا الشمالية لأن ارتباطها ببريطانيا (المنفصلة عن الاتحاد الأوروبي) يعني إنشاء «حدود» بينها وبين جمهورية إيرلندا (الباقية في الاتحاد)، وفي ذلك تهديد لاتفاق السلام الذي أنهى حربَها الأهلية (1998).

أما قبول بريطانيا بوضع خاص لإيرلندا الشمالية فيضطرّها للتخلي عن تلك «الحدود» ويبقيها ولو جزئياً في الوحدة الجمركية الأوروبية، وفي ذلك إخلالٌ بشروط «بريكست» وثوابت الاتحاد البريطاني. هنا أيضاً، للملك دور يلعبه من دون أن يتدخل في السلطة التنفيذية أو يكون تحت الأضواء.

قُدّر للملكة إليزابيث أن تعيّن رئيسةَ الوزراء الجديدة «ليز تراس» عشيةَ رحيلها، ليتزامن انتقال بريطانيا من عهد إلى عهد ومن حكومة إلى حكومة، مع وضع داخلي صعب وصفته «تراس» بـ«العاصفة» فضلاً عن «رياح عالمية خطيرة».

ولا تختلف التحديات التي تواجهها الزعيمة الجديدة لحزب المحافظين عن تلك التي تعانيها الدول الغربية، بل الدول كافةً، وإنْ بدرجات متفاوتة، من تداعيات اقتصادية وصحّية لجائحة «كورونا»، معطوفةً إلى أزمات الطاقة وكلفة المعيشة جرّاء حرب أوكرانيا، بالإضافة إلى ثنائية السيول والجفاف التي شكّلت أبرز مظاهر التغيّر المناخي.

وفي ما خصّ بريطانيا يُشار أيضاً إلى المتكتّم عليه، أي تأثير «بريكست» في الاقتصاد، إذ لم يكن الخروج من الاتحاد الأوروبي منظّماً رغم أن التوقعات السلبية كانت واضحة، ثم إن الجائحة حالت دون ضبطه وتصحيحه.

وتأمل «تراس» بأن تلجم إجراءاتُها الأوليةُ الاستياءَ العامَّ من ارتفاع كلفة المعيشة، إلا أن رهاناتها الأخرى قد تصطدم بأجندات أقطاب حزبها. وإذ كانت قدّمت تشريعاً لإلغاء «الوضع الخاص» لإيرلندا الشمالية بموجب اتفاقات «بريكست»، فإنها تلقت تحذيرين مبكّرين من الاتحاد الأوروبي وواشنطن، وقالت الأخيرة: إن تقويض ذلك الاتفاق يفسد البيئةَ المواتيةَ لمحادثات التجارة بين الولايات المتحدة وبريطانيا.

*محلل سياسي -لندن