في الفترات الأخيرة ومع التحولات التي حدثت على مدار السنوات الماضية وظهور العديد من الانحرافات الفكرية التي أدت إلى ظهور الجماعات المتطرفة في العديد من الدول العربية وغير العربية حول العالم، ومع رصد التحول الفكري للشباب كأحد أهم الدوافع التي تدفعهم للانضمام إلى مثل تلك الجماعات، برز مفهوم الأمن الفكري كواحد من أهم روافد تحقيق الأمن المجتمعي وحماية الشباب من الهدم الفكري الذي قد يتعرضون له.

الفكر هو المحرك الرئيسي لتصرفات الإنسان وهو المكون لقناعاته الشخصية التي تمثل ركيزتَه في التعاطي مع المجتمع. والانحراف الفكري بكل أشكاله يمثل تهديداً صريحاً لأمن المجتمع وتماسكه. ولابد أن ندرك أنه ليس فقط الانجراف مع التيارات المتطرفة دينياً، بل أيضاً يشمل التحلل من القيم والفكر والثقافة التي تشكل هويةَ المجتمع والخروج بعيداً عن منظومة القيم المجتمعية، مع تبني المفاهيم والثقافة السلوكية المغايرة تماماً لهويتهم.

ومن هنا جاءت أهمية الأمن الفكري كوسيلة للوقاية من هذا الانحراف المهدد للمجتمع. الأمن الفكري هو شعور المجتمع بالأمان والاطمئنان على ثبات هويته والحفاظ على مكوناته الثقافية من التحول السلبي ناحية الأفكار المغايرة أو تجاه الثقافات الأخرى التي قد تكون بعيدةً عن النمط الثقافي المكوِّن لهوية المجتمع مما يمنح الفرصةَ لتلك الثقافات للسيطرة والتغول وإزاحة ثقافة المجتمع الأصلية عن تأثيرها على الأنماط السلوكية والمفاهيم العامة وحدوث خلل في دورها كضابط اجتماعي.

في دولة الإمارات العربية المتحدة يواجه الأمن الفكري الكثيرَ من التحديات الكبيرة، ومن أهمها وجود كل تلك الثقافات التي تعيش على أرض الإمارات، وبالتأكيد فإن وجود 200 جنسية تعيش في وئام وتعايش وتسامح هو شهادة إيجابية تتمتع بها الإمارات كواحدة من أهم الدول التي تعتبر رمزاً لهذا التعايش والتسامح.

لكن لابد أن ندرك أن هناك جانباً سلبياً مهدِّداً للأمن الفكري يجب أن نلتفت إليه، وأن نضع آليات ثقافية تحصِّن هويتنا من التغيير، وخاصة التغيير طويل المدى، لاسيما أن الكثير من الأطفال تتولى تربيتَهم مربياتٌ من ثقافات أخرى، وكثير من الآباء لا يدركون أنه بقدر تباعد المسافة بينهم وبين الطفل تتقارب المسافةُ بينه وبين المربية، مما يجعل تأثير ثقافتها عليه واضحاً ويغير من ملامح الثقافة الوطنية التي يجب أن ينشأ عليها الطفل. كما أن الفضاء المفتوح لشبكات التواصل الاجتماعي يمثل تحدياً كبيراً آخر للأمن الفكري، لما فيه من عوامل جذب شديدة للثقافات الأخرى والأفكار المغايرة للهوية والثقافة الإماراتية المحصَّنة بالموروث القيمي الذي ينبع من القيم الإنسانية المطلقة التي تربينا عليها.

والتعامل بوصاية أبوية مع شبكات التواصل الاجتماعي، من خلال المنع والغلق، هو طريقة دائماً ما تأتي بنتائج عكسية. لذلك فإن مواجهة تحديات الأمن الفكري في المجتمع تتطلب في المقام الأول التأسيسَ السليمَ للطفل والحرصَ على تربيته على القيم والهوية الإماراتية الأصيلة مع الحفاظ على روح التطور والنمو المستمر والتفاعل البنَّاء مع الثقافات الأخرى من خلال تنمية قدرة العقل على الفرز الفكري والقياس والتفاعل النقدي مع الأفكار التي يمكن أن تمثل تهديداً لثقافتنا وهويتنا، ولابد من خلق مناخ توعوي حقيقي للآباء لدعمهم في إلغاء المسافة بينهم وبين أطفالهم الصغار وخفض الاعتماد التربوي على المربيات.

تحديات القرن الحادي والعشرين، ومع كل تلك التطورات المتسارعة في التكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، لا يمكن التعويل فيها إلا على الوعي والبناء الفكري المرن القادر على احتواء وفرز كل الأفكار الغريبة عنه، وما دون الوعي لا يُعوَّل عليه. *أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي

 

*أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي