ما تعيشه القارة الأوروبية اليوم لم تعشه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. الحرب الروسية - الأوكرانية دخلت منعطفاً خطيراً مع ارتفاع صوت روسيا المهدد باستخدام السلاح النووي. القارة الأوروبية على وجه الخصوص تعيش وضعاً حرجاً بين سندان الأميركان ومطرقة الروس، ومصير مؤلم ربما سيختبره سكان أوروبا الذين بدأوا يتأهبون لما هو قادم، والذي قد يكون عظيماً. فلأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية دول مثل ألمانيا، النمسا، بولندا وبلغاريا تعود – ولو جزئياً - لاستخدام الفحم الحجري في التدفئة على الرغم من المخاطر الكارثية التي يخلّفها على صحة الإنسان والبيئة، فيما يحاول مسؤولون أوروبيون البحث عن بدائل الغاز الروسي، وهو ما تعبّر عنه الزيارة الأخيرة للمستشار الألماني أولاف شولتز لمنطقة الخليج، وكذلك بحث وزراء الطاقة الأوروبيون سلسلة إجراءات طارئة لوقف ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء بعد موافقة الدول ال27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على خفض استهلاكها من الغاز مند نهاية يوليو، واقتراح المفوضية الأوروبية وضع أهداف ملزِمة لتقليل الطلب على الكهرباء وتخفيض استهلاك كل دولة ما نسبته 10% على الأقل شهرياً و5% على الأقل خلال ساعات الذروة.
هي حرب تكسير العظام يخوضها الكبار، مع إصرار كل قطب على فرض إرادته. أميركا وحلفاؤها يصرون على حظر صادرات روسيا من النفط والغاز مع نهاية العام الجاري بهدف تجفيف منابع تمويل الحرب الروسية على أوكرانيا، وبالتالي شل حركة الاقتصاد الروسي القائم على الإيرادات النفطية، وفي مقابل ذلك تأتي ثقة الروس من قدرتهم على الرد على العقوبات الغربية. بوتين صرح مؤخراً خلال اجتماعه بأعضاء حكومته بأن «القيود العقابية المفروضة على روسيا ستتسبب بخسائر أكبر بكثير للبلدان التي تفرضها»، ما يعني أن نتائج الضغوط عليها لن تمر بسلام، خصوصاً وأن الغاز الروسي حالياً يمثل 9% فقط من الواردات الأوروبية مقابل 40% قبل بدء الحرب، وأن العمليات التخريبية التي طالت أنابيب الغاز في خطوط نوردستريم 1و2 من المرجح أن توقف الإمدادات كلياً عن أوروبا.
التطورات الدراماتيكية التي حدثت وتحدث يومياً تثبّت فكرة أن شتاءً قارساً ينتظر القارة الأوروبية، ليس فقط بالمعنى الرمزي، إنما واقعياً كذلك، والسيناريو المفزع هذا قد يفضي خلال هذا الشتاء إلى وفاة الآلاف وخصوصاً من كبار السن في ظل عدم توافر مصادر الطاقة للتدفئة، إلى جانب أزمات أخرى لن يكون أولها فقط انقطاع التيار الكهربائي إنما انقطاع شبكات الاتصالات والإنترنت أيضاً، وستواجه المصانع خطر توقف الإنتاج فيها بسبب نقص مصادر الطاقة وارتفاع سعر الغاز الطبيعي، وهو ما سيقود – إن حدث – إلى إغلاق آلاف الشركات والمصانع أبوابها وبالتالي تسريح عشرات آلاف - وربما مئات آلاف - العمال والموظفين. وهذا السيناريو – إن حدث على ذاك النحو - سيرفع التضخم إلى درجة لم نعهدها، وقد يعيد إلى الأذهان ما كان قد حدث خلال الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.
وإذا شهدت أوروبا ودول العالم الأول ما سبق، فكيف سيكون إذن مصير دول العالم الثالث والدول الفقيرة! لا شك أن تلك الدول ستعجز عن شراء احتياجاتها النفطية وتوفير احتياجاتها الأساسية من الغذاء والدواء، وسيكون الجميع في حضرة مشهد شديد التعقيد يشي بتغير جذري في النظام العالمي في وقت تتصاعد فيه التهديدات وتتعاظم المخاوف، وفي ظل فشل الحوار بين الأقطاب!